بقلم : مصطفى الفقي
كان صاحب الفضيلة الشيخ «محمد متولى الشعراوى» يملك روح الدعابة إلى جانب «الكاريزما» الفريدة التى تمتع بها ذلك الداعية الإسلامى الراحل، وعندما أُبعدت عن مؤسسة الرئاسة عام 1992 اتصل بى وزير الأوقاف الأسبق السيد «أحمد عبدالله طعيمة»- وهو من الضباط الأحرار- ليدعونى إلى عشاء تكريم فى منزله اقترحه ودعا إليه الشيخ «الشعراوى»، وسوف يحضره هو وعدد من مريديه لأن الشيخ كان يحمل لى مودة كبيرة، ربما أسهم فى تقويتها صديق مشترك هو فضيلة الشيخ «محمود عاشور»، وكيل الأزهر الأسبق، وعندما ذهبت إلى منزل الوزير «طعيمة» بـ«الزمالك» وجدت الشيخ وحوله عدد من عشاق حديثه، ومن بينهم وزير بالحكومة الكويتية وقتها، واثنان من المحافظين السابقين، وعدد من قدامى الضباط وكبار المسؤولين، وأكرمنى الشيخ يومها إكراماً زائداً حتى بلغ به القول موجهاً حديثه لى أمام الجميع: (إن الله أنقذك إذ تركت تلك المهمة الصعبة، فأنت إنسان طيب يستحق الخير)، وأجلسنى على يمينه، وكان يقدم لى الطعام بيده فى كرم زائد ومودة واضحة، وكنت أتحدث ذات يوم مع الرئيس الأسبق عن فضل الشيخ «الشعراوى» ومكانته، فقلت له: يا سيادة الرئيس لماذا لم تفكر فيه شيخاً لـ«الأزهر الشريف» بحكم مكانته وشعبيته؟ فقال لى: إنه طلب ذلك من رئيس الوزراء الراحل د. «فؤاد محيى الدين»، الذى عرض المنصب على الإمام «الشعراوى»، ولكنه اعتذر، فاندهشت لذلك واتصلت فى ذات اليوم بصديق العمر الشيخ «محمود عاشور» وحكيت له حوارى مع الرئيس الأسبق، فاتصل بى فى اليوم التالى وقال لى: إن الشيخ يبلغك تحياته ويرفعها أيضاً للسيد الرئيس، ولكن رئيس الوزراء د. «فؤاد محيى الدين» لم يعرض عليه المنصب إطلاقاً ولو عرض عليه لقبله، فالأزهر مقامه يعلو على كل ما عداه، وأضاف الشيخ «الشعراوى»: (إن المرحوم د. «فؤاد محيى الدين» لم يحتفظ بحبال المودة معى، بل أظنه كان غير محب لى).
وفى منتصف تسعينيات القرن الماضى كنت فى مطار «القاهرة» فى طريقى إلى «بيروت» لإلقاء محاضرة عامة فى جامعتها العربية فإذا بى أسمع صياحاً وضجيجاً من صالة كبار الزوار، فاتجهت إلى مصدر الصوت فوجدت الشيخ «الشعراوى» منفعلاً وهو يردد إن صالة كبار الزوار ليست لنا ولكنها للمحاسيب وأهل الحظوة، ذلك أن إدارة القاعة لم تسمح بدخول كل مودعيه، حيث كان فى طريقه إلى «جدة» لحضور زفاف ابنة صديق له، هو الشيخ «حسن عنانى»، الذى كان زميلاً لى فى كلية الاقتصاد جامعة القاهرة، وقبّلت رأسه وقلت له: إننى علمت أن الخطاب الذى ورد من وزارة الأوقاف لسلطات المطار يطلب فتح القاعة لكم محدداً أربعة مرافقين فقط باعتباركم وزيراً أسبق للأوقاف، بينما القادمون معك للتوديع يزيدون على الثلاثين، وقلت له: إن اللواء «عبدالعزيز بدر»، مدير المطار، عندما علم بما جرى قد جاءك بنفسه للتحية والتوديع، وأضفت له أن اللواء طيار «عبدالعزيز بدر» من أقرب الناس إلى رئيس الدولة وزميل له فى السلاح، فضلاً عن أنه زوج ابنة سفير «الأفغان» الراحل «صادق مجددى» الذى ينتمى إلى بيت إسلامى عريق فى «أواسط آسيا»، فاستراح الشيخ كثيراً لكلماتى التى امتصت غضبه، وجلست معه حتى غادر إلى طائرته قبل موعد طائرتى، ولقد كانت للشيخ فى جلساته قفشات ونوادر تؤكد أن رجل الدين الكبير ينبغى أن يكون مرحاً وبسيطاً، إذ إن الإسلام الحنيف يعتبر بشاشة الوجه صدقة من صاحبها.
أما الشيخ «جاد الحق»، شيخ الأزهر الأسبق، فلقد كان عالماً صلباً شديد المراس، وكانت تربطنى به مودة دائمة، وكان كلما رآنى حكى لى بعض الطرائف العربية من التاريخ الإسلامى، ومازلت أتذكر منها قصة (هند زوجة الحجاج بن يوسف الثقفى)، التى انفصلت عنه ثم تزوجها الخليفة الأموى، حيث اشترطت عليه أن يسحب «الحجاج» الجمل الذى تجلس عليه فى طريقها إلى الزفاف على الخليفة فى «دمشق»، وكيف أنها أسقطت متعمدة أثناء الموكب ديناراً وقالت للحجاج: أعطنى الدرهم الذى سقط منى، فقال «الحجاج»: بل هو دينار، فقالت: الحمد لله الذى عوضنا بدرهمنا ديناراً!، وكان الشيخ «جاد الحق» قوياً فى الحق لا يخضع للسلطة ولا يستجيب لحاكم، وأنا أشهد أن الرئيس «مبارك» فى أحد لقاءاته المنفردة بالإمام الأكبر فى مقر رئاسة الجمهورية استدعانى خمس مرات يملى علىّ بها تعليماته استجابة لمطالب الشيخ الجليل فى حضوره، وبعضها موجه إلى وزير الأوقاف، والآخر لوزير التربية والتعليم، والثالث إلى رئيس الوزراء نفسه، لقد كان الرئيس الأسبق «مبارك» يحترم رجال الدين الإسلامى والمسيحى ورجال القضاء قبل غيرهم من فئات وطوائف المجتمع.
ولقد تفضل علىَّ الإمام الأكبر الشيخ «جاد الحق» وهو فى منصبه الرفيع بالحضور إلى منزلى فى «مصر الجديدة» وعقد قران ابنتى الكبرى وبارك الزواج وهنأ العروسين، ولم يمانع فى أخذ صورة له معهما نشرتها الصحف فى وقتها، ولقد كان الشيخ «الشعراوى» يحبه كثيراً لنزاهته وبساطته، وحاول أن يشترى له شقة بديلة عن تلك الشقة المتواضعة فى الدور الرابع دون مصعد، والتى كان يسكنها شيخ الأزهر الأسبق، ولكن قضاء الله سبق مكرمة الشيخ «الشعراوى»، إذ رحل الشيخ «جاد الحق» بعد مرض قصير فنعاه مريدوه وعارفو فضله.
أما الشيخ «الغزالى» فلم أَرَ فى علمه وتقاه، وقد قدمنى له زوج ابنته الكاتب الصحفى المحترم والنقابى الشريف المدافع عن الحريات دائماً «محمد إحسان عبدالقدوس»، وتابعت ذلك الشيخ الجليل وناقشته طويلاً فى جلسة صالون له دعت إليه «دار الأوبرا المصرية»، وعندما أبلغت الرئيس الأسبق «مبارك» بمرض الشيخ «الغزالى» طلب رقم التليفون الخاص به وظل يتحدث إلى الشيخ وأنا أستمع، وقال له يومها: يا فضيلة الشيخ أنت قيمة إسلامية نعتز بها والدولة مستعدة لعلاجك فى أى مكان تراه فى الخارج أو الداخل، وقد تأثر الشيخ كثيراً بتلك المكالمة، ولكنه رحل عن عالمنا بعدها بأسابيع قليلة، وفى ظنى أن العلامة الشيخ «محمد الغزالى» كان امتداداً طبيعياً للإمام الفقيه «أبى حامد الغزالى» الذى يضىء اسمه تاريخنا الإسلامى بعلمه وزهده وورعه.