بقلم ـ مصطفي الفقي
لم أكن أتوقع أن يكون ذلك هو آخر لقاء بيننا عندما شارك مع كوكبة من المفكرين والعلماء فى اجتماع دعوت إليه منذ أسابيع قليلة لاستكمال رؤية «مكتبة الإسكندرية» فى سنواتها القادمة، لقد كان مرحًا كعادته، متفائلًا بطبيعته، ودودًا بفطرته، إنه المناضل المصرى الكبير «رفعت السعيد» الذى فقدت شخصيًا برحيله صديقًا عزيزًا وأخًا كبيرًا ووطنيًا متوهجًا، والذى أمضى سنوات صعبة من عمره وذاق حياة «الزنازين» وعرف السجون فى العهدين الملكى والجمهورى على حد سواء، حتى إننى داعبته فى آخر جلسة بقاعة المؤتمر الذى عقدناه فى «مكتبة الإسكندرية» عندما كنت أقدمه للحديث قائلًا: المناضل «رفعت السعيد» رد سجون فى ثلاثة عهود، فقد جرى اعتقاله فى عهد «فاروق» باعتباره عضوًا مؤسسًا فى الحركات اليسارية النشطة حينذاك، وجرى اعتقاله فى عهد الرئيس «عبدالناصر» ضمن مجموعات اليساريين الذين قذف بهم نظامه إلى السجون، والعظيم فى أمرهم أنهم ظلوا على الولاء له حتى آخر لحظة فى أعمارهم رغم ما ذاقوه فى المعتقلات والتعذيب الممنهج الذى تعرضوا له، ولكن إيمانهم بـ«عبدالناصر» كان جزءًا من الإيمان بالوطن، فلم يتغيروا أبدًا لأسباب شخصية أو خلافات فى الوسائل والأساليب، فقد احترموا فيه انحيازه الكامل للطبقات الكادحة وتبنيه المطلق للمطالب الوطنية بلا مواربة أو زيف، لقد كان «رفعت السعيد» دارسًا بعمق للتاريخ، واعيًا بدهائه وتقلباته، ولقد خصص وقتًا كبيرًا فى دراسته، وبذل جهدًا كبيرًا فى متابعة تطور جماعة الإخوان المسلمين وأساليبها فى كل العهود التى عبرت عليها قبل ثورة يوليو 1952 وبعدها، وكان عدوًا لدودًا لها وفاضحًا شديد المراس لأساليبها، كما كان مؤمنًا بالوحدة الوطنية، مدركًا لأهمية دور الأقباط فى الملف الوطنى، ولقد كانت تلك المسألة اهتمامًا مشتركًا بينى وبينه، ولم أتعجب عندما قال لى المناضل الكبير «خالد محيى الدين»- أطال الله فى عمره، وكنا فى رحلة برلمانية بالخارج أثناء رئاستى للجنة العلاقات الخارجية، وكان ذلك المصرى العظيم عضوًا فيها وهو يمخر عباب الثمانينيات من عمره وقتها- عندما سألته عن رأيه فى عدد من السياسيين على الساحة المصرية، لقد قال: (إن «رفعت السعيد» هو أفضلهم على الإطلاق)، لذلك تنازل له طواعية عن رئاسة حزب التجمع وهو مطمئن تمامًا ومقتنع اقتناعًا كاملًا، لأن ذلك هو أفضل اختيار لذلك الحزب الذى يملك برنامجًا سياسيًا واضحًا دون كل الأحزاب السياسية على الساحة المصرية، ولقد لفت نظرى فى تاريخ «رفعت السعيد» ومسار حياته الفكرى والسياسى ما لاحظته فيما قال أو كتب أنه كان موضوعيًا فى خلافه مع النظم واحتفظ «بشعرة معاوية» معها فى أصعب الأوقات وأحلك الظروف، ولم يكن أبدًا كارهًا لكل من يرى أو رافضًا لكل ما يحدث، بل كان وطنيًا موضوعيًا، يعرف الأرض الصلبة التى يقف عليها وينحاز لها، وكانت بينه وبين الرئيس الأسبق «مبارك»- رغم الاختلاف فى الرؤى والأساليب- مداعبات فى كل اللقاءات، مصدرها أن «رفعت السعيد» كان مقتنعًا بأن «ما لا يدرك كله لا يترك كله»، بل إن «رفعت السعيد» كان معتدلًا فى خصومته، محترمًا فى التعامل مع من يختلف معه، مؤمنًا أن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية.. إننى أزعم أن المسرح السياسى المصرى قد فقد واحدًا من أبطاله التاريخيين، وأن طعم الحياة العامة فى «مصر» لن يكون هو ذاته بعد رحيل ذلك المناضل الوطنى الجسور، ولعلى أسجل هنا ملاحظتين مهمتين:
أولًا: إن «رفعت السعيد» كان محدثًا وكاتبًا متألقًا فى الحالتين، كما أنه امتلك أرشيفًا سياسيًا لا أظن أن هناك من يملكه من أبناء جيله، ولقد عمل بدأب فى الحياة السياسية المصرية حتى آخر نفس فى حياته، كما كان مؤمنًا بالعلم وأهمية الاتجاه لدراسة العلوم التطبيقية بجانب العلوم النظرية، وله ابنة متفوقة فى ميدان البحث العلمى وابن متميز فى عمله، لأن الرجل كان مؤمنًا بأن المستقبل يجب أن يكون أفضل من الحاضر فى كل الظروف.
ثانيًا: إن «رفعت السعيد» الذى كان فى مرحلة من حياته صديقًا لـ«الاتحاد السوفيتى»، دارسًا وباحثًا، كان أيضًا محل تقدير من «موسكو» على نفس مدرسة السيد «خالد محيى الدين» ضمن الساسة الكبار الذين ينظر إليهم باحترام ولا يعتبرون محسوبين عليهم رغم نقاط الالتقاء معهم فى بعض المسائل الأيديولوجية، وقد كانت ميزة «رفعت السعيد» أن لديه عقلية نقدية متميزة، لا تقبل الأمور برمتها، ولكنها تستطيع الاختلاف معها فى بعض النقاط رغم الاتفاق الشامل فى مجمل موضوع بذاته.
لقد فقد فقراء «مصر» مدافعًا تاريخيًا عن قضية العدالة الاجتماعية منحازًا للطبقات الكادحة، كما فقد اليسار العربى واحدًا من جيل الرواد، وفقد حزب التجمع أهم قادته الحاليين وأحد مؤسسيه الكبار، كما فقدنا نحن- أصدقاءه وزملاءه- أيقونة نادرة فى ظروف سياسية صعبة انسحب فيها «رفعت السعيد» من الحياة فجأة ودون استئذان، لذلك فإنه عندما نعاه الناعى كان هول المفاجأة شديدًا، وكان الحزن وسوف يظل عميقًا.
المصدر / المصري اليوم