بقلم - مصطفى الفقي
مولع أنا بفلسفة غاندى ومؤمن بتميز ذلك العملاق الآسيوى عن غيره من عمالقة كل العصور، فالرجل البسيط الزاهد هندوسى الديانة والثقافة وقف بشدة أمام تيارات التعصب وموجات العنف مؤمنًا بأن الإنسان هو الإنسان فى كل زمان ومكان ودفع حياته ثمنًا لذلك كما دافع عن حقوق الأقليات العددية فى شبه القارة الهندية وفى مقدمتهم ما يزيد على مائة مليون مسلم هندى جاءوا من نفس الأصول العرقية والسلالات التاريخية لأشقائهم فى الوطن، وما يتردد عن وفود أعداد من المسلمين من دول الجوار الهندى أمر مبالغ فيه، فالهنود المسلمون هم شركاء الوطن عبر مراحل التاريخ كله وقد دخلوا الإسلام فى ظل حكم الدولة المغولية وليسوا قادمين إلى الدولة الهندية من خارجها، ولقد عشت فى الهند سنوات أربع انبهرت فيها بالشعب الهندى وآمنت بأن الهند متحف الدنيا وملتقى لحضارات وثقافات وديانات ولغات واكتشفت درجة الانصهار الاجتماعى فى ظل التعددية التى تتمتع بها الأمة الهندية، ولقد شدنى كثيرًا إرث المهاتما غاندى وفكره العميق وفلسفته الفريدة القائمة على مفهوم المقاومة السلبية وتحقيق الغايات الوطنية بأساليب تقوم على سياسة اللاعنف فضلًا عن إيمانه العميق بالمساواة بين أبناء وطنه دون تفرقة بسبب ديانة أو لون أو أصول عرقية أو اختلافات لغوية، ولا عجب فالمهاتما غاندى هو تلك الروح العظيمة الملهمة للبشرية بلا استثناء ومن يتأمل سنوات حياته فى جنوب إفريقيا يدرك أن ذلك العملاق الأسيوى قد نقل إلى القارة السمراء روحه المتجددة وأفكاره العظيمة وأظن أن (مانديلا) ذلك العملاق الإفريقى الآخر قد استمد من المهاتما قبسًا من روحه ونمطًا من فلسفته ومازلت أتذكر الأبيات الرائعة التى كتبها أمير الشعراء تحية للمهاتما أثناء مروره من قناة السويس فى طريقه إلى مؤتمر المائدة المستديرة فى لندن وكان أبرز ما فيها قول شوقى:
سلام النيل يا غاندى، وهذا الزهر من عندى.
بل إن الحركة الوطنية المصرية فى عهدى سعد زغلول ومصطفى النحاس قد استمدت روحًا وافدة من فكر غاندى ورفاقه مثلما التقت أفكار عبدالناصر مع الزعيم الهندى جواهر لال نهرو، والعلاقات المصرية - الهندية علاقات ذات طبيعة خاصة على امتداد القرن العشرين، أعود الآن لكى أعبر عن قلقى الشديد- من واقع احترامى للأمة الهندية وتقديرى لشعبها الذى يتجاوز عدده المليار ومائتى ألف نسمة- مؤكدًا أن هذه السطور تنبع من حب شديد لذلك الشعب الكادح والمتميز فى مجالات متعددة، فالهند حاليًا دولة نووية ودولة أبحاث فضاء وواحدة من الدول العشر الصناعية الكبرى فضلًا عن الاكتفاء الذاتى من الحبوب الغذائية والتفوق فى مجالات الطب والهندسة وفروع الرياضيات والتعامل مع تكنولوجيا المعلومات حتى أصبح للخبرة الهندية موضع بارز بين الخبرات المعاصرة فى فروع العلوم الحديثة، ولكن الذى يزعجنى انطلاقًا من محبة زائدة واحترام شديد هو ما جرى فى الشهور الأخيرة تجاه المسلمين الهنود ومعاقبتهم بذنب بعض الجاليات الوافدة من الدول الإسلامية المجاورة وحرمانهم من حقوق الجنسية التى كفلها الدستور الهندى وهو دستور ديمقراطى علمانى رفيع الشأن تتمتع به دولة تعتبر هى كبرى ديمقراطيات العالم عددًا ونوعية، لهذا فإننى أعبر عن تعاطفى مع كل الأقليات العددية من كل الديانات بلا استثناء فى العالم كله وأرفض كل أنواع الاضطهاد أو التمييز أو التهميش لأن ذلك يمثل عدوانًا على البشرية فى أغلى ما تملك وهو جوهر الإنسانية ذاتها، وأنا على يقين من أن الحكمة الهندية سوف تطفو فوق أحداث الشغب وسوف تعيد التوازن المعهود لكافة الطوائف فى ذلك البلد الكبير، فلقد تعلمنا من الهند كثيرًا ولسنا نعطيها دروسًا فى المساواة والعدل وهى بلد المهاتما العظيم لأننا نعتبر أن إرث غاندى هو ملك للبشرية جمعاء نتقاسمه مع أشقائنا الهنود بكل تقدير واحترام ونربأ بالدولة الهندية أن يجرى فيها ما تناقلته وكالات الأنباء فى الشهور الأخيرة معتبرين أن ذلك شأن داخلى ولكنه يمس مباشرة مكانة الهند وأصدقاءها فى قارات العالم المختلفة وإذ يواجه العالم محنة من نوع غير مألوف متمثلة فى ذلك الوباء الشرس والذى لم تبرأ من ضرباته أبناء قومية معينة أو أتباع دين بذاته فى رسالة واضحة وهى أننا جميعًا فى قارب واحد تعصف به الأنواء وتتقاذفه الأمواج لأننا شركاء قدر ومصير وحياة.