يقلم - مصطفي الفقي
أتذكرها كلما افتقدت الطرب الأصيل، أتذكرها كلما شاعت الأغانى الهابطة ذات المعانى الفقيرة والألحان الهزيلة والأصوات الواهية، نعم أتذكر أم كلثوم، تلك الظاهرة التى قال لى بعض الأصدقاء الهنود ممن لا يعرفون العربية إن قوات الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية كانت تُوَقِّت ضرباتها أحيانًا بالتنسيق مع صوت أم كلثوم حتى تضمن انشغال الشعوب بصوتها الساحر، بما فى ذلك الشعوب غير العربية مثل فارس والهند وغيرهما، نعم أتذكر أم كلثوم يوم ذهبت معها مودعًا لها فى مطار هيثرو، وأنا نائب للقنصل بلندن، فى مستهل حياتى الدبلوماسية، وكيف رأيتها هى وزوجها الدكتور حسن الحفناوى- وهو والد صديقى، الأستاذ الدكتور محمد الحفناوى، الذى أجاب، فى حوار صحفى مؤخرًا عن حياة أم كلثوم، إجابات صادقة ورائعة فى نفس الوقت- وأتذكر جيدًا أن ضابط الجوازات البريطانى سألنى يومها: ما اسم هذه الضيفة الكبيرة؟ فقلت: أم كلثوم، فقال: ولكن أين الاسم الأوسط واسم العائلة؟ وعندما سألتها قالت لى فى ضيق: أم كلثوم إبراهيم البلتاجى، وكان تاريخ ميلادها فى جواز سفرها الدبلوماسى 1908، وأنا أظن أن التاريخ الحقيقى كان 1898، وقد سألتنى يومها: ما درجتك؟ فقلت: إننى دبلوماسى صغير بدرجة سكرتير ثالث، وكان ذلك فى عام 1972، فقالت: إن الذى ودعنى فى مطار القاهرة هو الدكتور عبدالقادر حاتم، بتعليمات من الرئيس السادات.
فلماذا لا يستقبلنى السفير كمال رفعت فى مطار لندن؟! فقلت لها: إن السفير الحالى لا يستقبل إلا رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو وزير الخارجية، وهو مشغول الآن بمقابلات معينة واتصالات رسمية، ولابد أن أعترف بأن لقائى بها وحوارى معها كانا صدمة لى، لأنها كانت فى الواقع مختلفة كثيراً عن ما كان بخيالى الواسع، خصوصًا أنها كانت فى تلك الفترة قد تقدمت فى العمر، وكانت تشعر وقتها بأن رحيل عبدالناصر ومجىء السادات قد طوى صفحة من حياتها، وأنها قد أصبحت قريبة من صانع القرار لأن السادات كان فى بداية عهده ولم يكن له فى ذلك الوقت مثل كاريزما عبدالناصر فى حياته، ولقد ترددت شائعات عن خلاف لها مع السيدة الفاضلة جيهان السادات، وقد اكتشفنا أن ذلك لم يكن صحيحًا وأنها شائعات برعنا فيها دائمًا. أعود إلى عصر الطرب الجميل الذى كانت تمثله أصوات متميزة، أبرزها صوت سيدة الغناء العربى كوكب الشرق أم كلثوم، التى أظن أن الله قد منحها صوتًا شجيًا لا نعرف له مثيلًا، وقد بدأت من الإنشاد الدينى إلى أشعار «شوقى» و«رامى» مع ألحان «القصبجى» و«السنباطى» ثم «عبدالوهاب» وصولًا إلى بليغ حمدى وسيد مكاوى وغيرهم من صناع الكلمة وواضعى الألحان ومهندسى الأنغام، فأم كلثوم تركيبة ذات خصوصية تمثل ظاهرة فريدة، وأتذكر الآن صديقى الراحل أحمد زويل، الذى كان يقول لى إنه حصل على جائزة نوبل نتيجة أبحاثه وتجاربه التى أجراها وصوت أم كلثوم يصدح إلى جواره فى كل وقت حتى داخل المختبرات العلمية فى الولايات المتحدة الأمريكية.
وأنا أعترف أننى قد استعنت شخصيًا فى فترة إعدادى للدكتوراه فى لندن بصوت هذه القيثارة الفريدة وأغانيها الرائعة، خصوصًا الأشعار الخالدة، بدءًا من «سلوا قلبى» مرورًا بـ«رباعيات الخيام»، التى ترجمها «رامى» شعرًا عن الفارسية، وصولًا إلى «الأطلال» مع العشرات من روائعها الأخرى مثل «ذكريات» و«قصة الأمس»، بل إننى استمعت إلى تلاوة من آيات الذكر الحكيم بصوتها الرخيم، الذى جعلنى أدرك أن نشأتها الدينية قد لعبت دورًا كبيرًا فى تثقيفها وتكوين وعيها وتشكيل وجدانها، كما أنها قد صعدت درجات سلم المجد من «طماى الزهايرة» إلى أن أصبحت حلمًا لشريف باشا صبرى، شقيق ملكة مصر، الذى افتتن بها وأراد أن يتزوجها، لقد كانت قريبة من عظماء عصرها فى كافة المجالات، وربطتها صداقة قوية بعدد من رؤساء الحكومات المصرية، أذكر منهم النقراشى باشا، حتى إن جحوظ عينيها قد بدأت أعراضه بعد حزنها على اغتيال ذلك السياسى الوطنى المصرى النظيف.
إننى أسوق هذه الكلمات ترحُّمًا على عصر الطرب الأصيل والفن الجميل، متذكرًا أيقونة الغناء العربى فى القرن العشرين، إننى أتذكر ذلك كله الآن وأنا أرى ما آل إليه الطرب المصرى حاليًا من هبوط واضح وسطحية ظاهرة وفن أجوف.. رحم الله أم كلثوم وعصرها الذهبى وعاشت أغانيها الخالدة وأعمالها الرائعة وحسها السياسى الرفيع وتذوقها للشعر والأدب، حتى كانت مُحدِّثة ساخرة لا يباريها أحد فى ملاحظاتها الذكية و«قفشاتها»، التى مازال يذكرها معاصروها أو مَن كتبوا عنها.. رحمها الله، ورحم معها الطرب المصرى وإبداعات زمنه الجميل.