يكشف وزير الدفاع الإسرائيلي الأكثر تطرفاً، يوماً إثر آخر، عن ملامح تصوره لمستقبل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والإطار المتخيّل في ذهنه، للحل النهائي للقضية الفلسطينية ... في الضفة، يقترح الرجل الذي لم يؤخذ بجدية كافية مع بداية صعوده السياسي كمدير لمكتب نتنياهو في حكومته الأولى عام 1997، أن تقفز إسرائيل في تعاملاتها مع الفلسطينيين، من فوق السلطة الفلسطينية، وان تجري ترتيبات مباشرة مع القادة المحليين في المدن والقرى والبلدات، في إعادة “مُحدّثة” لتجربة “روابط القرى” المجهضة.
أما في غزة، فقد وجد الرجل ضالته، مع أول رشقة صواريخ بدائية الصنع، انطلقت من القطاع المحاصر، ليعطي الأوامر بشن أكثر من خمسين غارة جوية على أهداف في القطاع، في سابقة للتدهور هي الأخطر من الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، والتي اسماها الجيش الإسرائيلي بعملية “الجرف الصامد”، وفي محاولة منه – على ما يبدو – لتغيير قواعد الاشتباك مع الفصائل الفلسطينية المسلحة في القطاع، ولإعادة ترميم صورة الردع الإسرائيلي وحفظ مكتسباتها.
في نظرته إلى الضفة الغربية، يسعى ليبرمان لإعادة “تلوين” خرائطها وفقاً لمعيار أمني وحيد وأوحد ... المناطق الهادئة ستحظى باللون الأخضر، وستكافأ بالعديد من التسهيلات و”المزايا” الاقتصادية ... أما المناطق المضطربة أمنياً، وتنطلق منها العمليات والفدائيون، فستلون بالأحمر، وستجلب على نفسها غضب وزير الحرب المدجج بأعتى ما انتجته تكنولوجيا الحرب وإيديولوجيا الكراهية والعنصرية ... ولا ندري إن كانت بعض المناطق ستحظى باللون البرتقالي، وتخص مناطق الهدوء النسبي، فتستحق نظرية الرجل في التعامل مع الضفة اسم: نظرية إشارات المرور.
أما في غزة، فالرجل الذي أصدر أوامره بقصف القطاع بقسوة شديدة، لم يتردد في إعطاء الإذن لدولة قطر وحركة حماس بنقل أموال الرواتب التي تبرع بها الأمير القطري لموظفي حماس، وفي يوم العمليات الجوية الكثيفة على القطاع، أعطى الرجل ضوءًا أخضر لألف شاحنة بعبور الحاجز الإسرائيلي صوب القطاع ... في مسعى لتكريس نظرية “العصا والجزرة”، جنباً إلى جنب مع مسعاه الآخر لتغيير قواعد الاشتباك وإعادة بناء الصورة الردعية لـ “الجيش الذي لا يقهر”.
المفارقة أن ليبرمان الذي يكتشف من موقعه المتقدم في مؤسسة صنع القرار السياسي والأمني الإسرائيلي، أن السلطة فقدت قيمتها ووظيفتها في الضفة – أو تكاد – يدفع باتجاه تكليف حماس بوظيفة حماية “الشريط الحدودي” مع قطاع غزة ... كل ما فعلته السلطة في الضفة، ليس كافياً ولا مقدراً من جانب ليبرمان، فيما جهود حماس لمنع إطلاق الصواريخ وحفظ حدود القطاع مع إسرائيل من محاولات الاختراق، تلقى بعض التقدير والاهتمام من قبل الرجل، الذي لا يكف عن مطالبة الحركة بالمزيد، وفي يده اليمنى حزمة جزر واليسرى “علبة الأزرار” الكفيلة بتحريك طائرات سلاح الجو من مرابضها.
هنا، وحتى لا يفهم الأمر في غير موقعه، وتشتط التفسيرات والتأويلات وتذهب في كل اتجاه، يجدر الاستدراك بأن الفارق بين نظرة ليبرمان للسلطة وحماس، لا يتعلق بهما من حيث المواقف والمواقع والاستراتيجيات والتحالفات، وإنما ينبع من الاختلاف الكبير بين مكانة الضفة ومكانة القطاع، من منظور نظرية الأمن والتوسع الإسرائيلية ... الضفة (يهودا والسامرة) تقع في القلب من المشروع التوسعي – الاستيطاني الإسرائيلي، أمنياً واستراتيجيا وإيديولوجياً، فيما فقد القطاع جاذبيته وقدرته على استدرار اللعاب الإسرائيلي منذ زمن “أبو الاستيطان” أرئيل شارون ... في الضفة تحفل الأجندة الإسرائيلية بعشرات المشاريع الاستيطانية التي ستلتهم ما تبقى من القدس الكبرى وغور الأردن ومساقط المياه وأحزمة المستوطنات الكبرى، ولن تجد إسرائيل من بين الفلسطينيين، “شريكا” يمكنه القبول بهذه الأجندة أو يبدي الاستعداد لإبرام صلح وسلام نهائي على أساسها ووفقاً لمخرجاتها.
أما الأجندة الإسرائيلية في القطاع، فتكاد تنحصر بالأمن، وبالأمن فقط ... المسألة هنا أسهل بكثير، والبحث عن “شريك أمني” يمكن أن يكون ممكنا تحت شعار “التهدئة” او “الهدنة طويلة الأمد”، إذ يكفي البحث عن “وكيل معتمد” يتعهد الأمن والهدوء لمستوطنات “غلاف غزة” نظير الكثير من الجزر، حتى تحل المشكلة، أما ما يجري في داخل القطاع، فليس شأنا إسرائيلياً إلا بالقدر الذي يمس أحد مكونات “نظرية الأمن الإسرائيلية”.
قبل أن يصعد ليبرمان إلى رأس حقيبة الأمن والدفاع، كانت هناك قراءات (نظريات) تستشف مقاربة إسرائيلية لـ “حل الدولتين” وفكرة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة أو القابلة للحياة ... وكان هناك من يقترح بأن إسرائيل تعمل على تقسيم الضفة الغربية إلى أربع أو خمس “ولايات” أو “إمارات” متنافسة (متصارعة) ومنعزلة (مستقلة) بعضها عن البعض الآخر، وآخر ما تردد عن مشاريع إسرائيل الاستيطانية الاستراتيجية، يصب في هذا الاتجاه، خصوصاً لجهة فصل محافظة الخليل عن بقية الضفة، كما فُصلت القدس من قبل، عن مجالها الفلسطيني الحيوي، والشيء ذاتها ينطبق على نابلس التي تعيش أسوأ أيامها من حيث الفوضى والفلتان، وكانتون الشمال (جنين وجوارها).... بعد الكشف عن “مبدأ ليبرمان”، اكتسبت هذه النظريات/ القراءات، أهمية خاصة، فإسرائيل تمهد للهبوط بهذه الأفكار والتصورات، من علياء “التمارين الذهنية” إلى ميدان التنفيذ العملي.
بدل حل “الدولة الفلسطينية، سيكون للفلسطينيين خمس أو ست “دول”، قد يجمعها رابط فيدرالي أو كونفدرالي، وقد لا يجمعها أي رابط، سوى الإدارة الإسرائيلية المشتركة لها جميعاً ... وبدل “حل الدولتين” التي تزعم إسرائيل منذ خطاب بار إيلان، بأنها تؤمن به وتؤيده، سيكون لدينا حل “5 + 1” ... قبل تصريحات ليبرمان كان الأمر يبدو بمثابة “فانتازيا سوداء”، بعد التصريحات يبدو أننا أمام مشروع، له أقدام يسير عليها وأذرع يجذّف بها.
أخطر ما في “مبدأ ليبرمان” أنه يصدر عن أحد أركان “الترويكا” الحاكمة والمتحكمة بالقرار السياسي والأمني في إسرائيل، وليس تعبيراً عن “شطحات” او “أحلام سوداء” تدور في ذهن سياسي أو رجل دين متطرف ... والأهم، أن الرجل صرح بأن أفكاره هذه، لقيت استحساناً وتأييداً من قبل رئيس الحكومة بينيامين نتنياهو، ولم يصدر عن الأخير ما ينفي ذلك أو يوضحه، والمؤكد أن الضلع الثالث في “الترويكا”، نفتالي بينت، ليس بعيداً عن هذه التصورات، إن لم يكن على يمينها، أي بمعنى آخر، أن ما يهجس به ليبرمان، هو في واقع الحال، سياسة رسمية عليا لدولة الاحتلال والاستيطان والحصار والعنصرية.