بقلم : عريب الرنتاوي
من المرجح أن تكون التحضيرات والتفاهمات بشأن استخدام قاعدة همدان الإيرانية من قبل القاذفات الاستراتيجية الروسية العملاقة، سابقة للقمة الروسية – التركية «التاريخية في سانت بطرسبورغ (9 آب/ أغسطس الجاري)، بيد أن من المؤكد أن القرار بتفعيل هذه التفاهمات، التي لا يبدو أن سوريا بعيدة عنها (لقاء وزراء دفاع الثلاثة في طهران في الثامن من حزيران الماضي)، جاء بعد الشوط المتقدم الذي قطعته عملية تطبيع العلاقات بين كل من موسكو وطهران من جهة وأنقرة من جهة ثانية.
وإذا كان بمقدور القاذفات الروسية أن تنطلق من عمق الأراضي الروسية لضرب أهداف لها في سوريا، فإن اختيار قاعدة همدان الإيرانية، يبعث برسالتين قاطعتين في وضوحهما: الأولى، أن موسكو تنوي تطوير علاقاتها مع طهران بصرف النظر عن محاولات «الابتزاز» الأمريكي – الغربي في هذا المجال، وأن علاقاتها المستعادة مع تركيا لن تؤثر على هذا المسار ... والثانية، أن موسكو، ما زالت جادة في تفعيل وتوسيع دورها العسكري إن لزم الأمر، وعلى مختلف الجبهات السورية، بدلالة أنها اختارت لقاذفاتها الاستراتيجية، أن تنطلق من إيران وليس من روسيا لتنفيذ عملياتها، مختصرةً بذلك أكثر من ثلاثة أرباع الوقت الذي تستغرقه الطلعات الجوية.
وليس مستبعداً على الإطلاق، أن تتحول «زلة اللسان» التي صدرت عن مولود جاويش أوغلو عندما قال في الرابع من تموز/ يوليو الفائت، أن أنقرة قد تفتح قاعدة أنجرليك لاستخدام الطائرات الروسية، قبل أن يعود ويتراجع عن تصريحاته، ليس مستبعداً أن تتحول إلى سياسة تركية رسمية، فالأنباء اليوم تتحدث عن احتمال كهذا، في ظل التقارب الروسي – التركي المتسارع، وبعد اتفاق الطرفين على مبادئ عامة لحل الأزمة السورية، من بينها التعاون في الحرب على الإرهاب.
وإن صحت هذه التكهنات، ستكون روسيا قد نجحت في استمالة حليفين أساسيين من حلفاء واشنطن في المنطقة، العراق الذي منح موسكو الإذن باستخدام ممراته الجوية للوصول إلى الأجواء السورية ... وتركيا التي تلوذ بالصمت على العمليات الحربية الكثيفة التي تشنها موسكو ضد داعش والنصرة وحلفائهما في شمال سوريا الشرقي والغربي، هذا إذا لم يتحول الصمت إلى تأييد وتسهيلات، كما تقترح بعض المصادر.
روسيا ترمي بكل ثقلها في الحرب في سوريا وعليها .... وهي تشعر اليوم بارتياح لم يتوفر لها منذ تدخلها العسكري في هذه الحرب في الثلاثين من أيلول/ سبتمبر الفائت، خصوصاً بعد أن نجحت في كسب أنقرة أو تحييدها على الأقل، وبعد أن اطمأنت إلى التزام تركيا بعدم تحويل سوريا إلى أفغانستان ثانية، ومع تراجع دور بعض الدول العربية (الخليجية أساساً) الداعمة والراعية للفصائل المسلحة.
أضف إلى ذلك، أن الموقف الروسي يتقوى بدخول الصين على خط الأزمة السورية من بوابة دعم الجيش السوري ورفع وتائر التعاون الأمني والعسكري مع دمشق، كما اتضح من الزيارة النادرة وغير المسبوقة منذ اندلاع الأزمة السورية، التي قاد موفد عسكري صيني إلى دمشق ... بكين مهجوسة أيضاً بالتهديد الإرهابي، ومواطنيها «الإيغور» يقومون بدور متقدم في حروب الانغماسيين والانتحاريين على مشارف حلب وجبهاتها المشتعلة، وهم يعدون بالآلاف كما تقول المصادر.
والحقيقة أن تجدد «عاصفة السوخوي»، من موقع انطلاقتها الجديد، وبهذه الكثافة، لا يمكن ربطه بمجريات المواجهة على محور الراموسة – الكليات جنوب غرب حلب فحسب... من الواضع تماماً أن ثمة قرارا استراتيجيا، روسي –إيراني – سوري، لا ندري أين تقف أنقرة حياله، بالقضاء على ما تعتقد هذه الأطراف، أنها فصائل إرهابية، لا تتهدد النظام السوري في أمنه وبقائه فحسب، بل وتتهدد أمن إيران وروسيا والصين وتركيا، وأطراف أخرى عديدة.
ويبدو للمراقبين، أن ثمة فسحة ضيقة من الزمن، تريد موسكو أن تستغلها حتى النهاية، وتقاس بالأشهر الخمسة التي تفصلنا عن مغادرة باراك أوباما للبيت الأبيض ... ستعمل خلالها آلة الحرب والدبلوماسية الروسية، سواء بسواء، مدعومة بكل هذه الاختراقات على جبهة «المثلث الروسي – التركي – الإيراني»، لتحقيق إنجازات ذات طبيعة استراتيجية مُقَرِرَة، سواء لجهة «الحل السياسي» للازمة السورية أو لجهة مصائر الحرب على الإرهاب.
صحيح أن الحرب على الإرهاب أو ضد فصائل المعارضة المسلحة الأخرى، لا تحسم ولن تحسم من الجو ... لكن دخول القاذفات الاستراتيجية على خط المعارك اليومية، وبدعم وغطاء من قبل مروحة واسعة من الحلفاء، وفي ظل تحول السياسة التركية لم تتضح مآلاته بعد، من شأنه أن يوفر دفقة دعم معنوي هائلة للنظام وحلفائه، وأن يرسم حدوداً لما يمكن للمعسكر الآخر، ان يحققه من مكتسبات على الأرض، وبصورة قد تحدث خللا استراتيجياً في معادلات القوى على الأرض في سوريا برمتها، وليس في شمالها فحسب.