بقلم : عريب الرنتاوي
التغيير الذي طرأ على سياسة أنقرة حيال سوريا، بعد المحاولة الانقلابية، وبالأخص بعد قمة سانت بطرسبورغ، لم يأت “كما تشتهي سفن المحور السوري – الإيراني”، أو أقله لم يكن بمستوى التطلع والرهان ... ما زالت تركيا تنظر للأسد بوصفه جزءاً من المشكلة، وما زالت ترى الحل برحيله أو “ترحيله” ... تركيا باتت أكثر حماسة للحرب على داعش، وأكثر اهتماماً بدعم “حل سياسي” للأزمة السورية من أي وقت مضى، بيد أن “عقدة الأسد” ما زالت تقف في “منشار” علاقاتها النامية مع أهم حليفين للنظام السوري على المستوى الإقليمي والدولي: إيران وروسيا.
هل سيتغير الموقف التركي في قادمات الأيام؟ ... لا أحد بمقدوره التنبؤ بالمستوى والحدود التي ستبلغها “البراغماتية” التركية، إذ من كان يتوقع كل هذه الانقلابات في علاقات أنقرة مع كل من موسكو وتل أبيب، ومن كان يتوقعها بهذه السرعة ... التحولات ذاتها جائزة في الحالة السورية، والقول الفصل في نهاية المطاف، للمصالح التركية، ومن ضمنها وعلى رأسها كذلك، مصالح الحزب الحاكم و”الزعيم المطلق”.
لكن ما الذي سيدفع تركيا لإحداث التغيير في موقفها من الأزمة السورية؟ ... أنقرة لن تقدم على إجراء أية استدارة كرمى لعيون “القيصر” أو “الفقيه الولي” ... هذا خارج الحسابات التركية ... أنقرة ستفعلها حين تدرك أن مصالحها في سوريا، تستوجب مثل هذه الاستدارة ... عندها، وعندها فقط، سنرى أردوغان، وليس بنعلي يلدريم، يبادر للاتصال بالأسد، أو يوفد إلى مبعوثيه إلى دمشق، أو يولم له في إسطنبول ... هذه تفاصيل، لن يتوقف عندها الساسة، حين تفرض المصالح العليا إملاءاتها.
هنا، وهنا بالذات، أحسب أن “العامل الكردي” سيكون مقرراً في الإبقاء على السياسة التركية كما هي عليه، أو إحداث نقلة نوعية في وجهتها وتوجهاتها ... تقدم الأكراد صوب منبج وما بعدها نحو “الباب”، وربما بعدها إلى إعزاز وجرابلس، تطور يقرع العشرات من نواقيس الخطر في مختلف دوائر وغرف صنع القرار في تركيا، وربما يلعب أكراد سوريا دور “Game Changer”، في السياسة السورية لأنقرة، ولا أحسب أن هناك عوامل أخرى، أكثر أهمية من هذا العامل، يمكنها التأثير في السياسة التركية وتغييرها، في المدى المنظور على الأقل، بمن فيها “داعش” وتفاقم خطر الإرهاب.
البعض “اقترح” أن أردوغان أجرى مقايضة مفيدة مع بوتين في سانت بطرسبورغ، حصل بمقتضاها على تعهد روسي بمنع قيام كيان انفصالي أو حتى فيدرالي كردي في شمال سوريا، نظير تخليه عن حلب للرئيس الروسي وحلفائه ... لا الورقة الكردية في يد “القيصر” ليقايض بها “السلطان”، ولا حلب بيد أردوغان ليبيعها إلى بوتين ... أحسب أن هذه القراءة تنطوي على كثير من التبسيط المُخل.
من الواضح تماماً أن المشروع الكردي يتقدم باضطراد سريع، مدعوماً بموقف أمريكي شديد الاندفاع وراء وحدات الحماية الكردية وقوت سوريا الديمقراطية ... الأمر لا يقلق روسيا، فهي صديقة للأكراد أيضاً، و”منفتحة” على مشروع “الفيدرالية”، بيد أن الأمر مقلق للنظام في دمشق، وللمعارضات السورية المختلفة، والأهم أنه مقلق لإيران وتركيا على حد سواء، وقد يصبح الأكراد، العامل الرئيس (إقراء اللاصق) الذي سيجمع هذه القوى المتناقضة في “جبهة واحدة”، بصرف النظر عن خلافاتها حول عناوين وتفاصيل أخرى
وقد يصبح مستقبل الأسد، أمراً تفصيلياً من وجهة نظر أنقرة، إن خرج المارد الكردي من قمقمه، بصورة لا رجعة فيها ... حتى الآن، لا زالت لدى الأتراك بقية من أمل في تدارك “الكارثة” قبل وقوعها.
حتى الآن، لا شيء جوهرياً تغير في موقف تركيا وموقعها، وإن كانت هناك إشارات وإرهاصات لمثل هذا التغيير ... حالة التوازن على جبهات النار المشتعلة في حلب، تشي بانتظار “تطور ما” سياسياً سيحدث قريباً على محور موسكو – أنقرة – طهران – دمشق ... لن نعرف طبيعته قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض من “مداخن” هذه العواصم ... لا أحسب أن تأخر “أم المعارك” في حلب، عائد لأسباب لوجسيتة أو عسكرية محضة كما تشيع مصادر النظام ومصادر المعارضة، وإنما ينتظر نتائج هذا الحراك الكثيف بين أطراف هذا المثلث.
الأطراف الثلاثة المشتبكة في معركة حلب: روسيا، تركيا، إيران في مرحلة إعادة تقييم وتقويم لعلاقاتها وسياساتها وقد تكون في بصدد إعادة تموضع... كسر العظم في حلب لا يخدم هذه العملية، لأنه سيكون كسر عظم في الأزمة السورية برمتها ... فإن تم التوافق على “خريطة طريق ومصالح” في سوريا بين هذه الأطراف، سيظل التوازن سيد الموقف، وقد تصبح حلب بوابة الحل السياسي، وإن تعذر التوافق، سنرى أبواب جهنم وقد فتحت من جديد، وعلى كل الجبهات في حلب وغيرها.