عريب الرنتاوي
اتُقدم الصين للبنان عروضاً يصعب مقاومتها، لكن لبنان المنقسم على نفسه، ما زال حائراً، لا يعرف كيف يجيب عليها أو يتصرف حيالها...الشركات الصينية العملاقة، تعرض على اللبنانيين حل مشكلة الطاقة الكهربائية جذرياً (24/7)، تسيير قطار يخترق لبنان من شماله إلى جنوبه، إنشاء شبكة مواصلات ضخمة داخل بيروت الكبرى، تجهز على الاختناق المروري، شق اوتوسترادات وسكك تربط العاصمة بالبقاع، شق نفق تحت جبال لبنان يربط بيروت ببلدة رياق في البقاع على تخوم السلسلة الشرقية مع سوريا.
الأهم من كل ما سبق، أن الصين لن تحتاج إلى شهادة حسن سلوك من "البنك" أو الصندوق" الدوليين، واستثماراتها لا تأبه كثيراً بحسابات المخاطر، وهي مستعدة للشروع في تنفيذ هذه المشاريع العملاقة حتى من دون "دفعة أولى"، وفقاً لنظام ‘B.O.T” الذي يختصر كلمات "Build" وتشغيل "Operate" ونقل الملكية "Transfer"، والمثير للانطباع أن هذه المشاريع ستنفذ بسرعة قياسية، تجعل اللبنانيين يخجلون من إدمان الفشل في إدارة ملف الكهرباء والنقل، وتجعلنا نخجل من حكاية "الباص الصريع" و"طريق الموت" إلى العقبة.
لكن، كما كل شيء في لبنان، ثمة انقسام عميق يشرخ نخبه الحاكمة..."الاتجاه شرقاً" شعار أطلقه حزب الله للتخلص من قبضة العقوبات الأمريكية، ولأنه كذلك، فإن فريقاً وازناً من اللبنانيين، سيُعارض هذه المشاريع ويرى فيه مؤامرة على "هوية لبنان"، كما سيعارض "الترياق" الذي قد يأتي من العراق، كما بشّر الوفد العراقي الزائر لبيروت هذه الأيام، حاملاً معه معادلة "النفط مقابل المنتجات الزراعية".
وأنا أتابع العروض الصينية والعراقية للبنان، تقافزت في ذهني أسئلة وتساؤلات: لماذا ليس الأردن؟...لماذا لا نطلب من الصين قطاراً سريعاً يربط إربد بالعقبة؟...لماذا لا نفكر بشبكة نقل في العاصمة التي تكاد تختنق بسكانها وضيوفها وسياراتهم، شبكة من الأنفاق والجسور والقطارات الخفيفة والباصات المعلقة، الصديقة للبيئة، تربط عمان الكبرى، وربما إقليم الوسط برمته، فما المسافة بين عمان وكل من السلطة ومادبا والزرقاء، نحن هنا نتحدث عن قرابة الـ60 بالمائة من سكان الأردن.
الصين تعرض الاستثمار في هذه القطاعات في لبنان برغم التحديات الأمنية والسياسية، ومخاطر إفلاس الدولة واندلاع الحروب والمواجهات، فيه وعليه...لبنان الذي لا يزيد إجمالي سكانه على خمسة ملايين نسمة، تعرض عليه الصين نظام “B.O.T”، فما بالك بالأردن، البلد الذي يزيد سكانه عن ضعف سكان لبنان، البلد الآمن المستقر، صحيح أن لدينا خانقة اقتصادية ومالية، بيد أننا لم نقارب حواف إفلاس الخزينة وانهيار العملة الوطنية، كما هو حال البلد الشقيق الذي نحب.
دعونا نجرد هذه "المقاربة الصينية" من حمولتها السياسية الفائضة لبنانياً، الصين تستثمر في قطاعات حساسة كالطاقة والاتصالات والمياه والبنى التحتية في مروحة واسعة من الدولة التابعة والحليفة للولايات المتحدة، أهمها إسرائيل...هذا لا يرضي واشنطن بالطبع، ولكن هذه الدول أظهرت قدرة على تجاوز خطوط واشنطن الحمراء...اقترابنا من الصين لا يعني ابتعادنا عن أوروبا أو الولايات المتحدة، مقاربتنا للشركات الصينية وعروضها التي لا تقاوم، لا تندرج في إطار "الاتجاه شرقاً" بل في إطار تنويع علاقاتنا ومبادلاتنا التجارية والاقتصادية مع مختلف المراكز الدولية.
والأهم من كل هذا وذاك وتلك، أن الصين وحدها، يمكن أن تقدم عروضاً لنا قِبَلٌ على تحملها واحتمالها، في حين أن أصدقاءنا في الغرب، شديدو التطلب والحذر، ويؤمنون بـ"الدفع قبل الرفع"، فضلاً عن الفوارق الفلكية في أسعار منتجاتهم وخدماتهم، قياساً بما تقدمه الصين، وأرى أن المسألة بحاجة لقرار سياسي كبير وشجاع، هذا هو أوانه بالضبط.