بقلم : عريب الرنتاوي
انتهى مؤتمر باريس للسلام في الشرق الأوسط، بنتائج أثارت حنق إسرائيل وخيبت آمال السلطة ورهاناتها ... نتنياهو استدعى عدداً من كبار مساعديه ووزرائه فيما يشبه “خلية الأزمة” للنظر في استراتيجية الرد الإسرائيلي على نتائج المؤتمر وتداعياته، فيما السلطة التي بنت الكثير من الآمال العراض على المبادرة الفرنسية، عادت لتقول إن نتائجه جاءت دون مستوى التوقعات.
والحقيقة أن السلطة التي استشعرت في الأيام والأسابيع القليلة التي سبقت التئام شمل وزراء خارجية 28 عاصمة عربية وإقليمية ودولية، شرعت في تخفيض سقف التوقعات مسبقاً، ربما لأنها أدركت بأن ما كانت تطالب به وتنتظره من المؤتمر، قد لا يتحقق في ضوء مواقف بعض اللاعبين الدوليين، وتحديداً الولايات المتحدة، التي عارضت الفكرة في البدء، ولم تتحمس لها فيما بعد، وغاب وزير خارجيتها عن دائرة الأضواء الباريسية، قبل واثناء وبعد انعقاد المؤتمر المذكور.
البيان الختامي للمؤتمر جاء تكراراً مملاً لعشرات الوثائق والبيانات المرجعية التي طالما تناولت القضية الفلسطينية تحت عنوان مخادع ومضلل: “سلام الشرق الأوسط” ... ويمكن القول من دون تردد أن هذا البيان، لم يتضمن جملة واحدة إضافية إلى ركام القرارات الدولية والوثائق المرجعية لعملية السلام ... حتى السياسة الاستيطانية الإسرائيلية التي كانت المحفز لعقد المؤتمر وإطلاق المبادرة الفرنسية، لم تحظ بانتقادات أكثر حدة مما سبقها، وبصورة تدفع على الاعتقاد بأن واشطن في الصفوف الأمامية، وتل أبيب من خلف الستارة، نجحتا في الهبوط بسقف البيان الختامي، وتحويله إلى مجرد “نصٍ” آخر، يضاف إلى أرشيف القرارات الدولية المتعلقة بقضية فلسطين.
السلطة دعمت مؤتمر باريس على أمل أن ينجح في تحقيق غرضين اثنين: الأول، إعادة وضع القضية الفلسطينية على خريطة الحراك السياسي والدبلوماسي والإعلامي الدولي، وهي نجحت في ذلك، وربما هذا ما أثار حنق إسرائيل ودفع تل أبيب لإطلاق مواقف نقدية حادة ضده وضد القائمين عليه .... أما الثاني، فيتمثل في إخراج المفاوضات من “الإطار الثنائي المباشر” إلى آلية دولية تشبه الآلية التي انتهت إلى إبرام اتفاق نووي بين إيران ودول “مجموعة 5 + 1”، ووضع جدول زمني دقيق وملزم للمفاوضات التي دعا المؤتمرون إلى استئنافها.
السلطة لم تنجح في تحقيق ما كانت تصبو إليه، باستثناء إعادة الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية (وهذا امر مهم على أية حال)، لكن العبارات الفضفاضة والعمومية التي صيغ بها البيان الختامي، لم تترك للسلطة فسحة للاحتفاء بانعقاد مؤتمر باريس، وبدء تحرك المبادرة الفرنسية على سكة الاتصالات والمشاورات الإقليمية والدولية.
إسرائيل في المقابل، لا تريد أي شكل من أشكال الحضور الدولي على موائد التفاوض المباشر مع الفلسطينيين، وهي لا تريد التقيد بمرجعيات محددة لعملية السلام ولا بإطار زمني للتفاوض ... وأخشى ما تخشاه تل أبيب هو انتقال “الوساطة” في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي من الولايات المتحدة، صاحبة الوكالة الحصرية بهذا الدور، إلى المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة، أو غيرها من الأطر والآليات... ومن باب أولى، فإن آلية “5 +1” التي يطالب الجانب الفلسطيني باعتمادها كإطار للحل ورافعة له، هي أكثر ما ترفضه حكومة اليمين واليمين المتطرف.
والموقف الإسرائيلي من مرجعيات التفاوض وأطره وجداوله الزمنية، ليس على الإطلاق، مسألة “تقنية” قليلة الشأن، بل هو مقف “مبدئي”، نابع في الأساس، من استراتيجية إسرائيلية تسعى في استكمال قضم الضفة الغربية والقدس وضمّهما لإسرائيل، وقطع الطريق على أية فرصة لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، مستقلة ومتصلة جغرافياً ... مثل هذا الحل – بالشروط الإسرائيلية، لا يمكن لتل أبيب أن تفرضه أو أن تنتزعه، عبر آليات تفاوض دولية، أو بإبداء الالتزام بأية مرجعيات وجداول زمنية للمفاوضات.
واشنطن التي لم تبد حماسة من أي نوع، للمبادرة الفرنسية آثرت الاكتفاء بحضور وزير خارجيتها للمؤتمر، من دون تعليق على مضمون المبادرة أو البيان الختامي، مفضلة ممارسة الضغوط من وراء ستار على صاحب المبادرة والأطراف الداعمة، ولقد كان لافتاً أن حضور الوزير الأمريكي في المؤتمر، وعلى غير عادته، جاء متواضعاً وغير مصحوب بضجيج البيانات والتصريحات التي اعتاد على إطلاقها من على كل منبر ومن كل عاصمة يزورها.
البيان الختامي للمؤتمر، “غازل” العرب والسعودية، من خلال حديثه عن مبادرة قمة بيروت (2002)، والمؤتمر أيد الرواية الفلسطينية من أن “حل الدولتين” بات في خطر حقيقي، وانتقد سياسة الاستيطان الإسرائيلية بوصفها مسؤولة عن إضعاف فرص هذا الحل ... لكن البيان الختامي للمؤتمر، خلال من أية مبادرات محددة وأفكار يمكن الاتكاء عليها مستقبلاً.
مؤتمر باريس الذي التأم بغياب طرفي النزاع الرئيسين: الفلسطينيبن والإسرائيليين، خرج بهذا القدر المتواضع من النتائج، فكيف سيكون حال “المؤتمر الدولي” العتيد الذي وعدت فرنسا بتنظيمه في الخريف القادم، وبحضور الطرفين، هذا إذا قُدّر للمؤتمر أن ينعقد، وإن قبل الإسرائيليون المشاركة فيه.