عريب الرنتاوي
لا حصر للتحليلات والتقارير التي صدرت وتصدر في عشرات العواصم الإقليمية والدولية متناولةً الانتخابات التركية وما يمكن أن تؤول إليه، الأمر الذي لا يعكس فقط مكانة تركيا على المسرحين الإقليمي والدولي، بل ويعكس حالة القلق والترقب مما سيترتب عليها من نتائج. ثلاثة عوامل تقترحها هذه القراءات والتحليلات لتفسير الفوز المتكرر لحزب العدالة والتنمية في جميع الانتخابات التي خاضها حتى الآن: (1) الطفرة الاقتصادية التي لامست ضفاف “المعجزة”... (2) سياسة خارجية قائمة على نظرية “صفر مشاكل” و”القوة الناعمة” ... (3) إصلاحات سياسية داخلية على خلفية التأهل لعضوية الاتحاد الأوروبي. عناصر القوة والنجاح تلك، فقدت صلاحيتها في العامين أو الثلاثة أعوام الأخيرة، فالاقتصاد في تباطؤ إذ هبطت معدلات النمو من ذروة 12 بالمائة عام 2012 الى ما دون 3 بالمائة وفق تقديرات 2015، كما تراجعت مؤشرات التصدير والاستثمار وارتفع مؤشر البطالة إلى 11 بالمائة ... السياسة الخارجية التركية قصة فشل بامتياز، حتى أن نظرية “صفر مشاكل” باتت مادة للتندر ... أما عن الحريات فحدث ولا حرج: اكبر سجن للصحفيين، فساد طال كبار القادة وعائلة الرئيس، تحويل القضاء الى ملحق بسلطة أردوغان، قبضة حديدية في التعامل مع الخصوم والمعارضين منذ أحداث “جيزي” بشكل خاص. لكن مع ذلك، فإن من المؤكد أن ينجح الحزب في كسب الانتخابات القادمة وهو الذي درج على كسب كل انتخابات خاضها ... السؤال يدور حول نسب النجاح وما الذي سيترتب على كل منها: هل سيشكل الحكومة منفرداً (267 مقعدا من أصل 550)، أم سيضطر للائتلاف مع حزب آخر؟ ... هل يحصل على (330 مقعداً) الضرورية لعرض الدستور الجديد على استفتاء عام، تتحول معه تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي على الطريقة الفرنسية؟ ... هل يحصل الحزب على367 مقعداً الضرورية لتعديل الدستور من دون عرضه على استفتاء عام؟ ... الجواب سيتقرر في ضوء ما سيحصل عليه حزب الشعوب الديمقراطية (الأكراد) الذي بات بيضة القبان. هذه المعركة الانتخابية تختلف عن سابقاتها ... الحزب الحاكم يخوض الانتخابات بلا زعامة كاريزمية، ما اضطر رجب طيب أردوغان، وهو المؤتمن على الدستور، أن يكون أول من يخرقه ويتجاوز على “حيادية” موقع الرئاسة، ويقود شخصياً الحملات الانتخابية للحزب، معتمداً خطاباً قومياً ومذهبياً تحريضياً، من دون اعتناء بما يمكن أن يترتب عليه من انعكاسات وتداعيات على وحدة الأمة التركية بمختلف مكوناتها. إنها حقاً مفارقة غريبة ... الحزب الذي خاض انتخابات سابقة برهان على الدخول في نادي العشر الكبار، يخوض انتخاباته الحالية متأبطاً نسخاً من القرآن مترجمة إلى الكردية والتركية، رافعاً شعار “لن تُسكتوا اذاننا”، وبصورة تذكر بشعار “الإسلام هو الحل” الذي طالما سخر منه قادة العدالة والتنمية والناطقون باسمه أنفسهم، في معرض نفيهم المتكرر بأن حزبهم حزب إسلامي، أو أنهم فرع من فروع جماعة الإخوان المسلمين، مفضلين تسميته بالحزب المحافظ ... وبدل أن يكون تفاعل التجربة التركية سبباً في إغناء وتطوير وتمدين الخطاب الديني العربي، كانت النتيجة تديين الخطاب المدني التركي ... والأرجح أن الحزب وزعيمه سيلاقيان مصائر نظرائهما في العالم العربي، إذا ما واصلا السير على خطاهم. تركيا التي تحولت في السنوات العشر الأولى إلى ما يشبه “قبلة أنظار” الإصلاحيين العرب من شتى المشارب والمرجعيات، بحثاً عن “دروسٍ من التجربة التركية” يمكن تعلمها، وتحديداً فيما خَص العلاقة بين الدين والدولة، الإسلام والعلمانية، الديمقراطية في ظلال حكم ذي مرجعية إلامية ... تركيا هذه، باتت تجربة طاردة مثيرة للانقسام ومصابة بكل أمراض وعلل الإسلام السياسي العربي، المشرقي بخاصة. تفويت الفرصة على أردوغان وحزبه للحصول على غالبية كاسحة، هو أمرٌ تحتاجه تركيا أكثر من أي شيء آخر، بل ويحتاجه الإقليم برمته... ولهذا جاء القاسم المشترك بين عشرات التحليلات آلتي تتناول الانتخابات التركية مؤكداً أن “التصويت للأكراد” هو خشبة خلاص تركيا ووسيلتها لتلافي الخضوع للاستبداد، أو الغرق في أتون صراعات واستقطابات قومية (ترك وكورد) وذهبية (سنة وعلويون)، وسط مخاوف من تداعيات غياب التمثيل الكردي في البرلمان على السلم الأهلي الهش الذي يخيم على البلاد.