هل الديمقراطية تصلح لمجتمعاتنا العربية

هل الديمقراطية تصلح لمجتمعاتنا العربية؟

هل الديمقراطية تصلح لمجتمعاتنا العربية؟

 السعودية اليوم -

هل الديمقراطية تصلح لمجتمعاتنا العربية

بقلم : معتز بالله عبد الفتاح

ذكرت من قبل مقولة أرسطو: الفضيلة وسط بين رذيلتين. والرذيلتان هما الدفاع عن الديمقراطية أخذاً بفضائلها دونما اعتبار لترتيباتها المؤسسية، أو الهجوم عليها لعدم ملاءمتها لنا دونما اعتبار لخسائر غيابها، والموقف السليم هو الوسط الذى يرى فيها مخاطرها وعوائدها وكيف ينبغى أن ينعكس نبل الهدف على نبل الوسيلة، ولهذا الغرض كانت هناك أقسام العلوم السياسية والقانون الدستورى والتاريخ حتى تفيد صانع القرار متى توافرت عنده إرادة التحول الديمقراطى ولقوى المعارضة الراغبة فى الإصلاح حتى لا يستحيل الأمر فوضى. ولنبدأ على تأكيد أن الديمقراطية اختراع إنسانى عبقرى، لأنها نوع من قمع القمع ولجم جماح الاستبداد عن طريق تعدد مراكز صنع القرار والرقابة المتبادلة بين مؤسساتها، فضلاً عن حق المحكوم فى أن يكون حاكماً فى يوم الانتخابات، وواجب الحاكم أن يقبل بحكمه إما بالعزل أو بالبقاء، وتقف النخب العربية الحاكمة ومعها قطاع من المثقفين العرب موقف الريبة الشديدة من الديمقراطية، محتجين بما لها من آثار سلبية محتملة على الاستقرار والتنمية. والسؤال المطروح: «هل لمخاوفهم أسس منطقية من الواقع؟».

هل الديمقراطية لا تصلح لمجتمعاتنا العربية؟ الإجابة المريحة: لا تصلح. لكن الإجابة الصحيحة هى أنها تصلح إذا ما ارتبطت هذه الديمقراطية بهندسة مؤسسية ودستورية تستوعب طبيعة هذه المجتمعات اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وعليه، فهذه الجملة الأخيرة تنقلنا من التساؤل عن مدى ملاءمة الديمقراطية لمجتمعاتنا إلى تساؤل أكثر عمقاً عن أى ترتيبات مؤسسية ودستورية تصلح لأى من المجتمعات العربية، ويكفى الإشارة إلى تحديات أربعة تواجهها بعض مجتمعاتنا العربية ويمكن أن تتحول معها الديمقراطية إلى عامل عدم استقرار بل ربما تكون نتائجها أفدح من عواقب غيابها، بما يستدعى التعجيل بالإصلاح السياسى وحسن إدارته.

فأولاً: هناك نموذج الدولة المنقسمة قومياً، حيث تعرف بعض الدول العربية درجة عالية من التوازى فى أشكال الانقسام، التى تبدو وكأنها دولة واحدة بالمعنى الدبلوماسى والقانونى لكن تعيش فيها عدة مجتمعات بالمعنى الثقافى والاجتماعى، ولنأخذ السودان مثالاً بالعودة إلى ما قبل الانقسام، ومع كثير من التبسيط لخريطة سكانية معقدة، فإنه يغلب على قاطنى شمال السودان أنهم يتحدثون العربية ويدينون بالإسلام وفى وضع اقتصادى أفضل نسبياً مقارنة بأهل الجنوب، وظل الشماليون قابضين على مقاعد السلطة فى مواجهة الجنوبيين الذين يغلب عليهم أنهم لا يتحدثون العربية ويدينون بخليط من المسيحية و«كريم المعتقدات الأفريقية» كما ينص الدستور السودانى، وهم فى وضع اقتصادى أسوأ كثيراً من أهل الشمال، وظلوا فى معظم تاريخ السودان الحديث بعيدين عن مراكز صنع القرار، وهذا ما يعنى ضمناً أن السودان أقرب إلى دولة واحدة لكن يقطنها أكثر من قومية، إذن انفصال الجنوب عن الشمال، رغماً عن حزننا على حدوثه، يبدو تطوراً طبيعياً بحكم فشل النخبة الحاكمة فى أن تتبنى منطق المواطنة وقبول التنوع فى إطار الوحدة، والدرس المستفاد أن غياب الإصلاح معضلة، وكذلك أى إصلاح سياسى لا بد أن يرتبط بحذر شديد حتى لا تتعمق هذه الانقسامات الأولية بما يثير النعرات العرقية والقبلية انتهاء بالحروب الأهلية، ومن هنا اخترع التنظير السياسى فكرة «الفيدرالية المرنة» التى قال بها عبقرى الفلسفة السياسية الأمريكى، الذى أصبح الرئيس الرابع للولايات المتحدة جيمس ماديسون، حتى يمكن الجمع بين ما هو «مشترك وعام من ناحية، وما هو خاص ومحلى من ناحية أخرى»، ومرونة الفيدرالية تقتضى توسيع صلاحيات المركز بما يضمن تخفيف حدة الانقسامات، وتقتضى درجة عالية من تمثيل الولايات فى الحكومة الفيدرالية والتفاوض بينهما حتى لا يسود الاعتقاد بأن مركز الدولة أداة فى يد فئة أو مجموعة ضد بقية فئات المجتمع، كما يعول التنظير السياسى على دور الرموز الوطنية المشتركة مثل الزعامات المعروفة برصيدها السياسى الكبير عند جميع مواطنى الدولة بغض النظر عن انقساماتهم الأولية (مثل غاندى ونهرو فى الهند) وكذلك يعول على أهمية وجود حزب وطنى فوق عرقى يمثل فى مرحلة معينة المصالح والتطلعات المشتركة للجميع، مثل دور حزب المؤتمر الهندى الذى يستخدم كأهم سبب لتفسير نجاح مشروع المواطنة والديمقراطية الهندية (رغماً عن التحديات الكثيرة) فى مقابل إخفاقات التجربة فى باكستان ونيجيريا وبنجلاديش، كما يُنظر إلى دور حزب العمل الإسرائيلى بنفس المنطق خلال أول ثلاثين سنة من عمر الدولة العبرية.

ثانياً: هناك نموذج الدولة المنقسمة أيديولوجياً، ومن هنا ابتكر التنظير السياسى فكرة وجود مجلسين، يقوم أحدهما بالتمثيل النوعى للأقليات والفئات التى يكون مستحيلاً تمثيلها بعدالة فى المجلس الآخر، كما يؤدى وجود مجلس قضاء أعلى أو محكمة دستورية تفصل فى أسباب النزاع إلى وجود مؤسسة تتسم بالحياد تقف حكماً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو المجلس الذى لو كان موجوداً فى النظام الأساسى للسلطة الفلسطينية لكان قد فصل فى دستورية القرارات التى اتخذتها الأغلبية البرلمانية لحماس وقرارات الرئيس الفلسطينى.

ثالثاً: هناك الدولة المهددة ديمقراطياً، أى التى تعانى وجود جماعات تعمل على اختطاف الديمقراطية باستخدامها مرة واحدة ثم التخلص منها بعد الوصول إلى السلطة، ومن هنا ابتكر التنظير السياسى مقولة «لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية» أى استبعاد القوى السياسية التى يمكن أن تستخدم أساليب ديمقراطية للقضاء على الديمقراطية بحكم الدستور، ومن هنا نجد أن بعضاً من الدول تتبنى صيغة المواد الآمرة أو فوق الدستورية (supra-constitutional) أى لا يمكن الاتفاق على مخالفتها ولا يمكن تعديلها إلا بأغلبية استثنائية، ومن ذلك التجربة الألمانية التى تضع مادة فى الدستور تمنع نشأة الأحزاب أو تكوين الجماعات التى لا تحترم الدستور، وعليه تم حظر الكثير من الجماعات المتطرفة يميناً (مثل الأحزاب النازية) أو يساراً (مثل الجماعات الشيوعية).

رابعاً: هناك نموذج الدولة الهشة بنيوياً، حيث تكون سلطة رأس الدولة وشرعية نظام الحكم ووحدة المجتمع شديدة الترابط على نحو يجعل المساس بصلاحيات رئيس الدولة وإضعاف مركزه السياسى سبباً كافياً للنيل من شرعية نظام الحكم برمته، وبالتالى تهديد لوحدة المجتمع التى ستتحول إلى ساحة للصراعات السياسية والانفجار من الداخل؛ فالانفتاح السياسى المحدود الذى قاده جورباتشوف فى الاتحاد السوفيتى أدى إلى انهيار تام لوحدة الدولة، وكذا فإن غزو العراق لم يعن فقط التخلص من رئيس الدولة، وإنما تدمير شرعية حزب البعث الحاكم ووضع وحدة الدولة العراقية موضع تساؤل، وعليه فإن النظرية الديمقراطية جعلت من بناء دولة المواطنة واحترام حكم القانون بكل تجرد وليبرالية التعليم والخطاب الإعلامى شرطاً ضرورياً ومتلازماً للتحول الديمقراطى، فالتحول الديمقراطى بدون ديمقراطيين فى الحكم والمعارضة وبين قادة الرأى العام فى المجتمع يعنى الفوضى فى أعقاب القمع.

هذا مما ينبغى أن يعيه المطالبون بالديمقراطية حتى لا تكون ديمقراطية هادمة لذاتها أو للدولة التى تعيش فيها.

arabstoday

GMT 14:22 2023 الإثنين ,04 أيلول / سبتمبر

القوانين قبل الديمقراطية؟

GMT 13:50 2020 السبت ,17 تشرين الأول / أكتوبر

أقوال بعضها عن الديمقراطية

GMT 04:59 2020 الإثنين ,17 آب / أغسطس

عصر التعايش مع الجغرافيا السوداء

GMT 08:03 2020 الجمعة ,14 آب / أغسطس

إيران: الإيذاء الذاتي بمناهضة أميركا

GMT 08:49 2020 الجمعة ,21 شباط / فبراير

أقنعة توماس جيفرسون وأتيلا الهوني في إيران

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل الديمقراطية تصلح لمجتمعاتنا العربية هل الديمقراطية تصلح لمجتمعاتنا العربية



إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 16:48 2024 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

اكتشاف بروتين يحفز إنتاج الدهون الجيدة والتخلص من السمنة

GMT 19:18 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

يتيح أمامك هذا اليوم فرصاً مهنية جديدة

GMT 00:36 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

5 طرق لتنظيف السيراميك والأرضيات من الطبيعة

GMT 16:43 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

بناطيل هوت كوتور ربيع 2021 من أسبوع باريس

GMT 12:48 2020 الأربعاء ,15 إبريل / نيسان

جامعة سعودية تتوصل لنتائج تقضى على فيروس كورونا

GMT 13:28 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

عادل عصمت يناقش "الوصايا" في نادي ركن الياسمين

GMT 19:49 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

"البيت الأبيض" يُعلن سحب قوات بلاده من سورية

GMT 19:12 2018 الإثنين ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فورد إكسبلورر 2020 الجديدة تظهر بتمويهات خفيفة

GMT 03:54 2018 الخميس ,30 آب / أغسطس

ترشيح أحمد السقا لبطولة فيلم "أشرف مروان"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab