مصباح

مصباح

مصباح

 السعودية اليوم -

مصباح

بقلم - حسن البطل

إذا قال أبي «امشي من وجهي» مشيت مشية كلب انتهره سيده، او جرو كلب لبطته امه.. فأبعد فمه عن حلمة ثديها. وأحياناً، كان مصباح يزجرني «غور من وجهي»، او «روح تخيّب».
تأنيب أقسى من هذا لم يكن من نصيبي؛ واخف من هذا كان نصيب أخي الصغير، سعيد، آخر العنقود. يؤنبه والدنا «غوّارة» او «نوارة».. كبر وصار آخر المقاتلين وأول القتلى في عيلة مصباح.
تأديب أقسى من صفعتين او «ضربني كفاً» لم يكن عقابي. بعد كل صفعة لا يمر ليل على نهار، دون ان يأخذ مصباح ولده حسن، ابن الثامنة او التاسعة، بحضنه الطري - القوي.. ثم يأمرني، كما يرجو المستمع المغني: يلا.. انشد «أنا علي المعوّل». ما معنى «المعوّل» يا أبي. يقول مصباح: يعني المستقبل يا ولدي.
نسيت كلمات هذا النشيد المدرسي، ولم انس مطلعه. معلمة الصف في مدرسة الوكالة لقنتنا النشيد في سن السادسة، ولم تشرح لنا معاني مفرداته. لاحقاً، سيقتلنا معلم النحو في إعراب قولة طرفة بن العبد:
«إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني/ عنيت فلم أكسل ولم أتبلد».
أحببت أبي ونشيد «أنا علي المعوّل». أحببت الإنشاء المدرسي، ولم احب النحو والصرف. أحببت الحساب والهندسة، ولم احب الجبر واللوغارتم. أحببت وجه أبي ضاحكاً (كانت أسنانه لؤلؤاً منظوماً، خلاف أسنان أمي).. صوته الفضي، حطته الناصعة أبداً.. وفهمت متأخراً جداً، لماذا احب أبي ألمانيا. كانت «مارتينته» ألمانية، كما قالت لي أمي بعد أربعين عاماً من وفاة أبي. وقبل أربعين عاماً من سقوط جدار برلين، اذكر كيف «نتر» أبي كف يدي بكف يده. قال: سيعود الألمان دولة واحدة.. تعيش وتشوف.
مصباح حسين البطل عاش حتى رأى جمال عبد الناصر في الشام، ثم انفجر شريان في دماغه في ذروة ضحكة مجلجلة أثناء سهرة عند لاجئين صفديين في قرية دوما.. وأنا عشت حتى رأيت تلك المدرسة في طيرة حيفا، التي رفعها أبي، بزنده، ساعده، مرفقه، عضده.. وذراعيه. كان مصباح فلاحاً، وكان محارباً، وكان عماراً.. وكنت، في صغري، أتملى عضلات زنده، وساعده، وذراعه عندما يتوضأ.
وفي طيرة حيفا، رأيت حجارة مدرستها الثقيلة، وفهمت لماذا كان مصباح يحمل بطيختين في كل ذراع ذي زاوية قائمة. عندما اشتد ساعدي بعد وفاة أبي.. لم أتمكن، قط، من حمل اكثر من بطيخة واحدة في كل ذراع.
كان يأخذني الى سوق القرية ممسكاً بيدي، فأعود حاملاً ما يلزم البيت من المؤونة وحوائج.. وما يلزم عائلة رفيقه في السلاح، الذي سقط أثناء الانسحاب من طيرة حيفا، وترك وراءه ثلاث بنات في عمري وأقل.
علمني أبي كيف أفك الحرف قبل ان ادخل الصف، فكتبت على سبورة الصف الأول كلمة «العصفور» سليمة، بينما كنا نتهجى كلمات: بابا. ماما. قلت له مباهياً: صفق الصف لي. قال لي: قم وانشد «أنا علي المعول».
في الأربعين من عمري، زارتني أمي مريم، رحمها الله، في نيقوسيا، فاستذكرت معي كيف بللت دموعي حصباء وحجارة الوادي، عندما كنا ننقلها لتشكل مهداً لقبر أبي الطري.. حتى لا يغور القبر وحجارته مع الزمن. استذكرت أمي كيف «طحاها» أبي صارخاً «امشي من وجهي يا مرة»، لأنها نقلت مارتينته من مخبئها في السلسلة الى مكان اكثر ستراً.. دون ان يدري.
في الأربعين لم يشتد ساعدي مثل ساعد أبي.. ولكن أمي قالت: أولاد مصباح يغضبون مثل غضبة أبيهم، ولكنهم لا يضحكون مثل ضحكته. وقالت أمي: إذا كتم أبوك غضبه في صدره، انتصبت شعرتان في حاجبيه.. كأنهما «زبانة» العقرب.. وليس في حاجبيك شعرة الغضب كما أبيك. سيكون عمرك أطول.. ان شاء الله.
حقاً، رأيت أبي غاضباً مرة أثناء توزيع مؤن الوكالة. ومرة لأن مدير المدرسة شتم «أولاد اللاجئين الزعران».. فذهب أبي الى المدرسة وامسك بياقة «عادل بيك» وصرخ في وجهه.
.. ولكنني لم أر، قط، زبانتي عقربين في حاجبيه. كان مصباح يغضب في السياسة وعلى الساسة.. وعلى ذل اللجوء خصوصاً.. فكيف يغضب على «عمايل» صغيرة اكثر من «امشي من وجهي».. ومن مد يده الى حزام وسطه.. فنمشي من وجهه ركضاً.. لنعود الى حضنه ركضاً.
وقالت أمي: لك في صوتك بحة الحزن في صوت أبيك، ولك في حبّ الزهور والورود شيء من عادات أبيك. هذا نصيبك من سر أبيك، ولأخوتك الثلاثة نصيبهم.

 

arabstoday

GMT 09:20 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

أخبار المتزوجين

GMT 09:15 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

أخبار من ايران وغيرها

GMT 05:49 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

«قيصر» يقتحم أبوابكم!

GMT 04:28 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

3 سنوات قطيعة

GMT 04:19 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

مسكين صانع السلام

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصباح مصباح



إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 16:48 2024 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

اكتشاف بروتين يحفز إنتاج الدهون الجيدة والتخلص من السمنة

GMT 19:18 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

يتيح أمامك هذا اليوم فرصاً مهنية جديدة

GMT 00:36 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

5 طرق لتنظيف السيراميك والأرضيات من الطبيعة

GMT 16:43 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

بناطيل هوت كوتور ربيع 2021 من أسبوع باريس

GMT 12:48 2020 الأربعاء ,15 إبريل / نيسان

جامعة سعودية تتوصل لنتائج تقضى على فيروس كورونا

GMT 13:28 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

عادل عصمت يناقش "الوصايا" في نادي ركن الياسمين

GMT 19:49 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

"البيت الأبيض" يُعلن سحب قوات بلاده من سورية

GMT 19:12 2018 الإثنين ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فورد إكسبلورر 2020 الجديدة تظهر بتمويهات خفيفة

GMT 03:54 2018 الخميس ,30 آب / أغسطس

ترشيح أحمد السقا لبطولة فيلم "أشرف مروان"

GMT 23:45 2018 السبت ,30 حزيران / يونيو

تعرف على حكم قراءة الفاتحة في "صلاة الجماعة"

GMT 22:30 2017 الجمعة ,22 كانون الأول / ديسمبر

ميلان يبرر تواصل ليوناردو بونوتشي مع كونتي

GMT 00:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

حقيبة اليد تضيف المزيد من الأناقة للرجل في 2018

GMT 02:50 2016 الإثنين ,10 تشرين الأول / أكتوبر

ياسين الصالحي يتمسك بالطرق القانونية للانتقال إلى "الكويت"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab