كما هو متوقع، أثمر الاحتباس المنزلي الكوروني الطويل، ازدهاراً وزخماً في كثافة اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
ثرثرة عابرة لا طائل أو فائدة منها من جهة، وانصراف إلى تشكيل مؤونة تحميل مكتبة مجانية من أمهات الكتب، أو إعادة قراءة ثانية لكتب.. أو كتابة مسلسلة «فيسبوكية».
ما يهمّنا هو اغتنام مثقفين، وأدباء، ومناضلين سياسيين. الاحتباس الطويل، كفرصة كتابة إبداعات خاصة، تتراوح بين الأدب والمذكرات، التوثيق والاستعادات، قد يتم أو لا يتم جمعها بين دفّتي كتاب لاحقاً، هذا إن كانت منتظمة ومتسلسلة بخاصة.
رصد باقة مختارة من هذه الكتابات، منوط بعدد الأصدقاء المشتركين في وسائل التواصل الاجتماعي.
شخصياً عدد أصدقائي لا يتعدّون الـ 410، ومن هؤلاء تابعت وأتابع بالذات، أربعة أقلام لأربعة كتّاب.
سلسلة «بغداديات» لعماد الأصفر، و»الست كورونا» لعادل الأسطة، ومذكرات شخصية عن الانتفاضة الأولى لجمال زقوت، ومتفرقات غير منتظمة للأديب المقدسي إبراهيم جوهر.
عماد وعادل غزيرا الكتابة على «الفيسبوك»، وأما جمال فهذه سلسلته الأولى المنتظمة، وكذا غير المنتظمة لإبراهيم جوهر.
شدّتني، بالذات، «بغداديات» عماد، الممتعة والمفيدة معاً، ممتعة بأسلوبها، ومفيدة جداً بمعلوماتها عن الحياة العراقية.
صحيح أنني أمضيتُ عامين في بغداد، لكن عماد ولد في العراق وعاشه تماماً، ولمّا كتب عن بغداد والعراق والعراقيين، قدم مسحاً شاملاً: المطبخ العراقي، اللهجة العراقية والأغنية العراقية، حانات بغداد، مقاهيها، وشعراء وأدباء العراق.. وحتى دور البغاء، مشبوكة بحياة العراق السياسية العاصفة، وكل هذا في طرائف ونوادر ومفارقات لماحة وعميقة معاً.. ولماذا، مثلاً، احتار محمود درويش في تلبية دعوة صدام حسين للمشاركة في «المربد»، ولماذا شارك، لأن العراق هو الشعر والشعراء؛ ولأن عرفات تمنّى عليه المشاركة.
تدهشني، بشكل خاص، في «بغداديات» عماد الأصفر صفاء وحدة ذاكرته، واستعادته لها كاملة في الأغنية والقصيدة، وإتقانه التام للهجة العراقية المميزة، التي لا يعرفها العرب غير العراقيين، كما يعرفون اللهجة المصرية بالذات.
شخصياً، كفلسطيني سوري، صرف عامين في بغداد وحدها من العراق، صرت أعرف أن نظرية أنطون سعادة عن «بلاد الشام» لا تشمل بلاد الرافدين، ومن 13 عاماً في قبرص أنها ليست نجمة «الهلال الخصيب». لخصت العراق بثلاث كلمات: «جارح، صارخ.. وبارح».
حتى قبل سلسلة «الست كورونا» لأستاذ الأدب العربي في جامعة النجاح، كنتُ أتابع الدكتور، غزير الكتابة والتأليف، عادل الأسطة، كما يتابعني هو.
زادتني كتاباته عن عمله الأكاديمي معرفة بواقع وتطور الحياة الأكاديمية الفلسطينية، لكن في سلسلة «الست كورونا» صرت أعرف أفضل مدينة نابلس، وعادات أهلها ونبض حياتها اليومية، وهذا بلغة سلسة و»صحافية» دون بلاغات لغوية، رغم أنه أستاذ في الأدب
بينما لا أذكر أن لعماد الأصفر كتاباً، وأن بغدادياته وعراقياته تستحق جمعها بين دفتي كتاب، فإن للأستاذ عادل جملة من المؤلفات، سيضاف إليها واحد آخر عن «الست كورونا»، وربما سواه لن يكتب عنها وكيف عاشتها رام الله مثلاً، التي خصّها أجانب وفلسطينيون في كتب عديدة، قبل وبعد حياتها في حقبتها الأوسلوية «مدينة تنمو على عجل» كما قال درويش.
جمال زقوت مثقف سياسي نشيط، وعلى ما لا حصر له من كتب عن مجريات ووقائع الانتفاضة الأولى، فقد أضاف إليها جمال مذكرات شخصية كأحد نشطاء الانتفاضة، مناضليها في «القيادة الموحّدة» ومعتقليها، وعلاقاته كنشيط في «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» مع الأحزاب التقدمية والشخصيات خارج فلسطين، وله ملاحظات على سياسة السلطة الفلسطينية في الحقبة الأوسلوية، خاصة لأنه شغل منصب مدير مكتب رئيس الحكومة سلام فياض.
باستثناء د. عادل الأسطة، وهو كان مقرباً من الجبهة الديمقراطية، أو «نشيطاً خامداً» فيها كما عقّب بذلك على عنوان مقالة لي، فهو الوحيد الذي يكتب مقالة أسبوعية في جريدة «الأيام» أدبية ـ اجتماعية ـ سياسية، علماً أن أربعة أو خمسة من كتّاب «الأيام» صاروا وزراء في حكومات السلطة الفلسطينية.
امتياز الأديب إبراهيم جوهر، في سلسلة متقطّعة من كتابته، أنه مقدسي، وفي كتابته نثرات عن المدينة المقدسة في زمن الـ»كورونا»، وعن لمحات أدبية فلسطينية، شخصية وعامة، وهو وعادل الأسطة يشتكي من التقدم في العمر، ومن اعتلال الصحة الشخصية، وهذا ما لم أجده في كتابات وسلسلات عماد الأصفر، وجمال زقوت الأفتى سناً.
ماذا عني، صاحب «أطراف النهار» طيلة ربع قرن، ومحرر «فلسطين الثورة» في مرحلتيها البيروتية والقبرصية، خاصة أنني أكثرهم «طعناً» في السن أو «مطعوناً» به.
بعد 21 سنة من «العومدة» اليومية، وثلاث سنوات من «العومدة» ثلاث مرات أسبوعياً، بقي عمود «أطراف النهار» منتظم الصدور، كما هي الجريدة، في زمن الـ»كورونا»، باستثناء كثرة الاستعادات من الكتابات القديمة، ومعظمها من اختيار قلم التحرير.
أخيراً، وافق رئيس التحرير على كتابتي عمودين أسبوعياً، بعد أن ضحك لقولي له: بعد عمر الـ 75 سنة، فإنك تكبر سنة في كل شهر.
لعلّها معطوفة على قول الصوفي: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة».