هكذا اجتزت عام أبي

هكذا اجتزت "عام أبي"

هكذا اجتزت "عام أبي"

 السعودية اليوم -

هكذا اجتزت عام أبي

بقلم - حسن البطل

انبطحت أرضاً، كما يبطحون من تضربه نوبة صرع فجائية (تقدّم العلاج الوقائي، فلم نعد نرى المصروع على قارعة الشوارع.. كأنه يختنق، أرضاً، كما يختنق المشنوق مدندلاً بحبل).

بطحتني السيارة أرضاً: الجذع على الإسفلت، ونصف الجسد الآخر على التراب. أخذ جسدي وضع الذي ينشلونه من الغرق، أو دخان الحريق.

لم يكن هناك ماء ولا دخان، كانت هناك رائحة الغبار. رائحة أشبه ببهار الكاري. لماذا الكاري أصفر؟ لماذا العصفر (الكركم) اصفر. لماذا راية الموت والحرب صفراء؟

كنت في الخامسة عشرة. كان الحانوتي يغسل جسد عمي عبد اللطيف. لم أر، من قبل، جسداً تاماً وهامداً.. يغسلونه ويحضرونه للدفن.

من يومها «انصرعت» كما تقول أمي.. أو اختبلت. علامة اختبال الولد الثرثار ان يلوذ بالصمت وبالحزن. يغسلون الموتى؟ نعم. لكن ما هذا «البهار الأصفر» المنثور على قطن ابيض؟ وما هذه العملية حيث سدّ الحانوتي منافذ جثمان عمي كلها: الأخبثين والأطيبين. الميت لا يغرق ولا يختنق.. لكنني شعرت بالاختناق.

الكاري والعصفر للتطيب، وشيء مثل الكاري والعصفر من مستلزمات التكفين.

كنت طريحاً، ولغبار الصدمة رائحة الكاري.. ثم رائحة احتكاك عجلات السيارة بإسفلت الشارع، الأشبه بالبهار الأسود المحروق.

لماذا الكركم هو عصف/فر، لأن الأصفر يعصف بالأبيض الذي هو لون الأرز؟ لماذا اسم الفندق الجزائري «مازفران» لأنه غير مضمخ بماء الزعفران.
الغبار ينجلي أسرع من الدخان. لكن رائحة الكاري ورائحة البهار الأسود تدوم تحت اللسان وفي الحلق، مثل الضباب في الوادي الجبلي شتاء.

انبطحت (بطحتني ضربة السيارة الغادرة من الخلف، كما ينبطح المصروع).. هل هذه هي النهاية؟ نهايتي قبل أسبوع من يوم ميلادي الـ 56؟
لم يكن على الإسفلت الأسود، حيث جذعي، لون دمي الأحمر. هذه خبطة إذاً، وليست دهساً. كيف أتنفس لو حطمت عجلات السيارة قفصي الصدري؟ مثل بيضة مفقوسة.

يوم ميلادي هو، مصادفة، يوم سقوط الباستيل. ها أنا اسقط جريحا او قتيلا. ومنذ عشرين عاماً، قبل الخبطة التي بطحتني كما كانوا يبطحون المصروع، كنت أخشى الموت في العام (2000).. وكان خوفي خوفاً خاصاً بي.

اجتزت ستة اشهر وأسبوعاً واحداً من العام 2000، وانا أخشى ان يكون عام الألفية هذه هو عام نهايتي كما كان «عام أبي». انا في السادسة والخمسين.. إلا أسبوعا واحداً.

مات أبي في الـ 56 من عمره بجلطة صاعقة ضربت دماغه وكنت غلاماً. منذ سنوات وأنا أراقب ضغط دمي. الصحافة ترفع الضغط؛ وهذا قد يكون مرضاً وراثياً، وانا ابن أبي، ومريض بالكتابة الصحافية.

ضربتني أزمتان قلبيتان، بفارق ربع قرن، وهذا يعني ان الأزمة عابرة، ونتيجة إرهاق، وليست مؤشراً على آفة قلبية.

في آخر «شيك – أب» قبل الخبطة قال الطبيب: أنت ولد. ضغطك 70 / 130، ثلاثي الكولسترول 194 (الحد الأدنى 150).. فرحت، سأجتاز «عام الأب» سأجتاز عام الألفية. سأكتب ألف عمود يومي آخر. سأصوم، من مغرب الشمس، عن السكائر، التي التهمها مع فنجان الصباح كما تلتهمني كلمات العمود اليومي تلو العمود. المهم ألا تسرف في التدخين قبل النوم؛ وان تسرف في خمسة مقادير يومية من الفاكهة والخضراوات.

للمثقف السياسي ثقافة طبية. لماذا لا؟ وللمطروح أرضاً، بعد خبطة سيارة، ان ينظر الى الإسفلت ليتأكد انه غير ملون بدمه الأحمر.

.. ثم، ان يأمر عقله عصب طرف بنانه.. تتحرك السبابة. ان يأمر، تالياً، عصب اصبع قدمه. يئن المصاب، وكنت اطلق أنيناً، لكنني كنت واعياً تماماً للثقافة الطبية. طلبت من الناس، الذين فزعوا إليّ، لحملي في السيارة التي خبطتني، ان ينتظروا.. حتى أتأكد ان عجلات السيارة التي لم تدهسني وتحطم أضلاع قفصي الصدري، لم تقصم ظهري فتقعدني بالشلل. من الذي لا يخاف - بعد العمى - من الشلل النصفي: ان تجرجر نفسك الى مقعد المرحاض.. وان لا تنحني برشاقة لقطف زهرة برية. ان لا تمد قدميك على الطاولة مستمتعا بفيلم غرامي.. وأن تمارس الواجب الرجولي في وضع أنثوي؟!

عندما وقفت، بمساعدة الناس (سأعرف لاحقاً انهم من شباب القرية، لأنهم سيذكّرونني بذلك) طلبت منهم الذهاب بي فوراً الى المستشفى. من يدري؟ هناك خطر النزيف الداخلي البطيء. لم أعد شاباً في «عام أبي».. لا عظامي، ولا بالأحرى أحشائي.

مثل زحف النمل الدؤوب سيأتي الألم القارس، بعد ان «تبرد الضربة السخنة". النمل لا يزحف بالطبع، نراه هكذا.
.. وهكذا قد نشم الغبار بهاراً، وقد يذكرنا البهار الأصفر بمواد «يتبّلون» بها جسد الميت: الأخبثين والأطيبين. نحن هكذا، في لحظة الصدمة، نخلط أحاسيس اللحظة بهواجس عميقة تقود الى زمن الطفولة.

لا يغيب خطر النزيف الداخلي قبل 36 ساعة، قضيتها تحت رقابة صديق، بعد العودة من «الطوارئ».

عندما يتبدد، تحت صورة الأشعة، خطر انكسار في العظام، يبدأ الوجع الحقيقي.. الناجم عن «التمزق العضلي».
لشهرين.. ثلاثة، حتى مطلع العام الأول من الألفية الجديدة.

كرهت رائحة الكاري والكركم عاماً آخر. عاد الأصدقاء لمناكفاتهم القديمة: «هل تصبغ شعرك». «مات أبي اسود الشعر». يجتاز الصينيون «عام التنين» و"عام الدب".. وأنا اجتزت «عام أبي».

arabstoday

GMT 09:20 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

أخبار المتزوجين

GMT 09:15 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

أخبار من ايران وغيرها

GMT 05:49 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

«قيصر» يقتحم أبوابكم!

GMT 04:28 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

3 سنوات قطيعة

GMT 04:19 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

مسكين صانع السلام

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هكذا اجتزت عام أبي هكذا اجتزت عام أبي



إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 16:48 2024 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

اكتشاف بروتين يحفز إنتاج الدهون الجيدة والتخلص من السمنة

GMT 10:54 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 09:30 2016 الأربعاء ,11 أيار / مايو

لازم يكون عندنا أمل

GMT 05:34 2020 الثلاثاء ,28 إبريل / نيسان

"قبعات التباعد" سمحت بعودة الدراسة في الصين

GMT 11:29 2020 الخميس ,05 آذار/ مارس

أعمال من مجموعة «نجد» تعرض في دبي 9 الجاري

GMT 14:43 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح من أجل محاربة الأرق عن طريق الوجبات الخفيفة

GMT 18:25 2016 الثلاثاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

معين شريف يهاجم راغب علامة عبر قناة "الجديد"

GMT 04:58 2012 الخميس ,06 كانون الأول / ديسمبر

سلوى خطاب بائعة شاي في"إكرام ميت"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab