عيلبون الضلع، المربع  وقيامة الدائرة

عيلبون: الضلع، المربع .. وقيامة الدائرة

عيلبون: الضلع، المربع .. وقيامة الدائرة

 السعودية اليوم -

عيلبون الضلع، المربع  وقيامة الدائرة

بقلم : حسن البطل

تقول اللافتة: «بعد مفرق حيطيم». ماذا قبل المفرق؟ جريمة كاملة لموت كامل، وبعده جريمة لموت غير كامل.

قبل المفرق كانت الجريمة الكاملة تحت بساط أخضر كثيف من شجر الكينا والسرو. هنا، تحت تابوت أخضر كبير، ترقد أطلال لوبيا المدمرة.

بعد المفرق قام الشهداء من قبورهم. نقش الأحياء في عيلبون على الصخر، ولحم الأرض، أسماء 28 شهيداً. كل أربعة قتلى على حجر واحد. للمربع أربعة أضلاع مع أربع زوايا قائمة. وعيلبون قامت من الموت، العابر والوحشي، وعادت من المنفى إلى البلاد.

كيف جاء الموت الصاعق قرية للخصب والمدرسة .. والموسيقى؟ كيف عادوا من الموت البطيء في المنفى، ليرفعوا أسماء شهدائهم من النسيان إلى الذاكرة؟

جندلوا القتيل الأول على درج بوابة الكنيسة. وكان الناس يحتمون ببيت الله من غزاة الدار. جمع القتلة رجال القرية .. وبدؤوا طقس القتل الهمجي: أنت. أنت. أنت. اختاروا أكثر الرجال شباباً، وأكثر الشباب قوة، وأجمل الفتيان الأقوياء.. وحصدوهم. خمس عشرة صرخة أخيرة بين الموت والحياة. ربما عشرات الحشرجات. ربما بضع طلقات إجهاز. هكذا جاء الموت قرية عيلبون زمن النكبة.

خمسة عشر قتيلاً تكوموا عند جدار الإعدام. واحد تكوم على درج الكنيسة. والباقي؟ كان لكل قتيل موته الخاص .. في حقله أو بيته، أو زاروب البيت .. وكان لغزالة إلياس سرور موتها الخاص جداً.

كان القتلة يجمعون أجمل الفتيان إلى حائط الإعدام. حصدوهم. وكانت غزالة تحصد القمح في ظاهر القرية. هل كانت حطتها البيضاء تجعلها تبدو رجُلاً؟ هل كان منجلها يجعلها تبدو ثائراً مسلحاً .. ضغط الطيار زناد رشاشه، سقطت غزالة قتيلة في حقل القمح. «بذور سنبلة تجف تملأ السهل سنابل».

28 قتيلاً، نقش العائدون إلى الحياة، والعائدون من الحياة في المنفى اللبناني أسماء شهداء قرية عيلبون. بالضبط حيث كان جدار الإعدام. للمربع أربعة أضلاع. وفي كل حجر مربع نقشوا أسماء أربعة قتلى. سبعة أحجار مربعة ترتصف في جدار. تنخلع الحجارة ذات الأسماء قليلا عن جسد حجارة بقية الجدار .. وتشدها بعضها إلى بعض مواسير معدنية .. كما الأضلاع في الصدر!

رحت أعدّ المربعات. رحت أدون أسماء القتلى (أربعة في كل مربع من حجر). انخلع قلبي في صدري.

«أعد أضلاعي فيهرب من يدي بردى»؛ «الحجر الذي نسيه البناؤون». انخلع قلبي. عددت المربعات ..

وعندما دونت أسماء الذين صاروا عظاماً، واعطوا أسماءهم للحم الأرض، وللصخر الذي نهض من عظام الأرض .. نسيت مربعاً واحداً. نسيت تدوين أربعة شهداء. تبّت يدي ولو انخلع قلبي في صدري.

عيلبون الخصب والمدرسة .. والموسيقى، عادت إلى علاقات حياة الدائرة، دورة الحياة العادية، كيف؟
وصل بعض النازحين للبنان حتى بلدة حريصا، وأقاموا ردحاً من الزمن في حماية «سيدة حريصا» .. ولكنهم غادروا زمن اللجوء القصير (ستة أشهر إلى عامين) قبل أن يصير النزوح المؤقت لجوءاً مفتوحاً.

في العام 1950 عادت دورة الحياة إلى إحدى أجمل قرى الجليل. كانوا ثلاثة آلاف نسمة قبل نكبة الموت والمنفى، والذين عادوا إلى القرية، عادوا بها، الآن، إلى البداية الأولى: ثلاثة آلاف إنسان في أجمل القرى.

وقبل خمسة أعوام تذكّر الأحياء واجب الشهداء عليهم. المجلس المحلي جمع حجارة حائط الإعدام من جديد. وجعل للجدار ساحة، ونقش أسماء الشهداء الـ 28، كل أربعة ضمن مربع. أحمد تحت الثرى. جريس تحت الثرى.. وأحمد وجريس قاما من شراكة الموت إلى شراكة الذكرى على حجر مربع واحد.

كيف تكررت المجازر في القرى، ويزعمون، اليوم، أنها كانت مصادفات؟ كيف يتشابه أسلوب القتل، ويزعم القتلة، اليوم، أن الجرائم المتفرقة لم تكن حرب إبادة مقسطة؟ أين ينتقي القتلة أكثر الرجال فتوة، ثم يرسلونهم إلى النسيان؟ هل فعل النازيون قتلاً أبشع من هذا ؟ وهل اختار النازيون طقوس قتل خلاف هذا؟ وفي زمن النكبة والمجزرة كان اسمها ماري، وفي زمن العودة من موت المنفى إلى الحياة يبقى اسمها ماري. وكان عمرها ثلاثة عشرة ربيعاً، وكانت خطيبة ابن خالتها ميلاد فياض سليمان أحد الذين رصفوهم إلى حائط الإعدام.

سأل المهندس المعماري نزار زريق: هل تشربون قهوة أمي في عيلبون؟ قلنا : نعم. نريد أن نرى بلدة ماري عيلبوني، زميلتنا في المنفى، وزوجة زميلنا التونسي محمد علي اليوسفي. ماري عيلبوني في تونس، وأنا أرى عيلبون بعيون ماري عيلبوني. وفي نيقوسيا حكى والد ماري عن مذبحة في عيلبون.. ومات في الشام من ربو أصابه في الخليج. نزار يروي في الطريق من الناصرة إلى عيلبون، وفي عيلبون تروي أمه ماري قصة المذبحة واللجوء إلى جونيه في لبنان؛ وقصة العودة تحت علم الأمم المتحدة.

ولد نزار في بيت بين الكنيسة العتيقة وساحة المجزرة. صار الولد مهندساً معمارياً. صار جدار الإعدام أجمل نصب تذكاري لشهداء مجازر زمن النكبة. أربعة شهداء في كل مربع من حجر، والحجر لحم الأرض، والبشر من لحم الأرض.

هنا الكنيسة. هنا بيت نزار زريق حيث شربنا قهوة أمه. هناك ساحة الإعدام. أين النفق؟ انتظر. مشوار قصير. هذا هو «نفق عيلبون» الذي يجر ماء بحيرة طبريا إلى نقب فلسطين. هنا ولدت الثورة. وحيث حصل الانفجار يوجد، فوق النفق، متجر أبو عماد لمواد البناء. وفوق تلة النفق نور اللوز في بلادنا. «نور اللوز رأيت الله».. قال الراوي الإغريقي في روايته «الطريق إلى آل-غريكو». وفي الطريق إلى عيلبون رأينا آية الله على الأرض. بفضل الفتى نزار، جميل المحيا جميل الروح .. ومن جيل أصلب من السنديان.

المربع تعذيب الدائرة. أربع زوايا قائمة تساوي 360 درجة تمام الدائرة. وعيلبون عادت إلى حياة الدائرة. باعا وجذع كل إنسان تعادل طول الإنسان من رأسه إلى أخمص قدميه. أربعة أضلاع متساوية تشكل مربعاً.

عددت المربعات. عددت أضلاع صدري. نسيت مربعاً واحداً. نسيت تدوين أسماء أربعه شهداء.. انخلع قلبي أمام جلال المشهد.
عيلبون قصة موت كان.. وحياة تبقى إلى الأبد.

المصدر: جريدة الأيام
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

arabstoday

GMT 03:49 2019 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

الموجة الجديدة من الحراك العربي

GMT 03:43 2019 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان بين صيغتين

GMT 11:46 2019 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

تدخلات غير مقبولة!

GMT 11:41 2019 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

اقرأوا وجه الرجل!

GMT 11:34 2019 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

مزوار: اذكروا أمواتكم بخير !

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عيلبون الضلع، المربع  وقيامة الدائرة عيلبون الضلع، المربع  وقيامة الدائرة



إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 17:04 2021 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

حظك اليوم برج الدلو الخميس 7 يناير/كانون الثاني 2021

GMT 16:31 2021 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

حظك اليوم برج العذراء الخميس 7 يناير/كانون الثاني 2021

GMT 15:06 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالة رائعة لسارة سلامة في جلسة تصوير جديدة

GMT 09:43 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

كاريلو يكشف عن كواليس البقاء مع "الهلال"

GMT 03:32 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

مروان الشوربجي يودع ربع نهائي بطولة قطر للاسكواش

GMT 10:08 2017 الإثنين ,09 تشرين الأول / أكتوبر

اتحاد جدة ينهيء الشعب المصري بالصعود إلى كأس العالم

GMT 13:33 2017 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

محمد عساف يغني في 5 مدن كندية دعماً لأطفال فلسطين

GMT 11:59 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبشرك هذا اليوم بأخبار مفرحة ومفيدة جداً

GMT 18:43 2020 الإثنين ,20 إبريل / نيسان

طريقة ترتيب السفرة في الدعوات الرسمية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab