كيف تصنع صحافة، وصحافة عربية تحديداً، من خارج السياسة وفي غيابها؟
مناسبة طرح هذا السؤال، الذي يلح على الصحافيين العرب، أو مَن تبقّى منهم، كما أقدّر، أن منطقتنا العربية بمجملها، وأساساً بدولها، تعيش خارج السياسة، فإن هي دخلتها فمن بوابة «القوى الدولية» وعبر صراع المصالح، أو في ظل أنظمة لم تكن في أي يوم «ديموقراطية»، ولن تكون... وقد تجلى هذا الواقع المر جلياً في الاحتفال باليوبيل الذهبي لاتحاد الصحافيين العرب الذي انعقد في القاهرة قبل يومين.
إن بعض أبرز الدول العربية وأشدها تأثيراً يعيش على عتبة الحرب الأهلية أو داخل أتونها، وبعضها الآخر لم يتعرّف إلى الديموقراطية يوماً ولا هو ينوي تعريض ذاته لمخاطرها، ويستمتع «النظام» فيه بأنه قد أحكم إقفال أبوابه أمام زحف هذه البدعة الشريرة والتي تضمر السوء للحكّام والمتحكّمين بالسلطة أو بالمال أو بكليهما معاً بذريعة «تمكين الشعب ـ أي الرعية ـ من ممارسة حقه في اختيار حكّامه، ومن ثم في محاسبتهم»!!
ولقد تخفّفت بعض الأنظمة من عبء المجاهرة بملكيتها المؤسسات الصحافية، والإعلامية عامة، من خلال شركات أو هيئات تموّه أصحاب الملك وتخفي ألقابهم المقدّسة... لكن هذا التمويه لم يطمس الحقيقة كلياً فظلت هذه المؤسسات ملكاً لأصحابها من أهل النظام بألقابهم السامية والعاملين في خدمتهم: تعامل مَن يعارضهم في الداخل وكأنهم مارقون أو كفرة أو عملاء للخارج على حساب مصالح بلادهم. وتستدعي «الاستعمار» الجديد الآن لحمايتها من شعوبها ومن التيارات الأصولية التي استولدتها ورعتها فلما تعاظمت قدراتها طمعت بوراثتها.
وثمة أنظمة أكثر ذكاء: إذ أنشأت أجهزة إعلامية فعالة خارج حدودها، في «المناطق الحرة» القريبة أو في العواصم البعيدة، وطمست أسماء المالكين الفعليين بغلالة من أسماء كتبة معروفين، بينهم مناضلون سابقون من أهل اليسار، وبعضهم مهنيون بل حرفيون لا يعنيهم الخط السياسي للمؤسسة سواء أكانت صحيفة «مغتربة» أم محطة فضائية تبث من البعيد.
وهكذا غدا الإعلام المرئي والمسموع بصورة خاصة ملكاً لأصحاب الجلالة والسمو، ومعهم بعض مَن اصطنعوهم من أصحاب الثروات، عبر أدوارهم كسماسرة لصفقات السلاح أو كمتعهدين لمشاريع بناء المدن المذهّبة والمنتجات السياحية الفخمة لزوم ترفيه السلاطين عن النفس والارتياح من أعباء الخدمة العامة للنهوض بالوطن والأمة..
ولقد تلقيتُ شاكراً دعوة اتحاد الصحافيين العرب إلى حفل تكريم مَن أمضوا خمسين عاماً في خدمة الصحافة في الوطن العربي، وهو عمر الاتحاد ذاته.
لم يكن لديّ أوهام حول حقيقة أوضاع هذا الاتحاد الذي فقد دوره، وتحوّل ـ كما جامعة الدول العربية بمختلف مؤسساتها ما عدا الاجتماع الدوري لوزراء الداخلية العرب ـ إلى «تكية» تشكو ضعف الإمكانات، وتضاؤل الدور تبعاً لتضاؤل «وجود» مختلف الأطر الرسمية للتعاون العربي، بل انعدامه، بعد تفرّق العرب أيدي سبأ، وبعدما بدأ العديد من الأنظمة الحاكمة في دولهم يعيد النقاش حول «هوية دولته»، أي عروبتها، ومن ثم ما يجمعها بسائر الدول العربية، سواء في المشرق أم في المغرب.
ذهبتُ إلى القاهرة والتقيت العديد من الزملاء الذين ما زالوا على إيمانهم بضرورة «الاتحاد» وبالعمل لإحياء دوره القومي... لكن المخلصين منهم كانوا يفتقدون القدرة على التأثير، سواء عبر الاتحاد الذي لم يعد يجد الدعم الكافي للعب دوره المفترض في جمعهم على قاعدة النهوض بالمهنة وتعزيز دورها في خدمة الأمة، أو عبر مؤسساتهم التي صادرتها الأنظمة سواء بذهبها أم بسيفها أم بالاثنين معاً.
كان هناك العشرات من الصحافيين والصحافيات، وقد جاءوا من مشارق الأرض ومغاربها، تجمع بينهم التمنيات والفرح بالتلاقي، ولكنهم يفتقدون القدرة على التأثير... وكما صارت النقابات تتوزع في مختلف الأقطار، بين تكايا حكومية أو مؤسسات فقيرة ومحدودة القدرة على تقرير ما يحفظ كرامة المهنة وأهلها، كذلك صار «الاتحاد» هيكلاً يعيش على الذكريات أكثر مما هو مؤسسة فعالة. أي أنه صار كمثل الهيئات العربية الجامعة له قوة «الرمز» الآتي من الماضي والذاهب معه أكثر مما له قوة التأثير في الحاضر، فضلاً عن المستقبل.
ومع الشكر للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على استقباله الاتحاد والذين اختار تكريمهم بفضل طول عمرهم في المهنة، فإن «بعث» الصحافة العربية واستعادتها دورها التنويري الذي كان لها، يحتاج أكثر من التكريم بالأوسمة واللوحات التذكارية.
لقد انعدمت «السياسة» في الوطن العربي بمشرقه ومغربه، وغرق العديد من أقطاره في دماء أهلها الذين يتساقطون على مدار الساعة في حروب أهلية تهدد «دولهم» بالاندثار. وتحولت الصحف من بلاغات حكومية وتوجيهات حزبية إلى صفحات رثاء للشهداء أو إلى منصات هجوم متبادل بين الأنظمة المصطرعة على الحاضر مما يؤدي إلى اغتيال المستقبل.. وبين هذه وتلك دعوات استنجاد بالأجنبي وتحيات لقواته التي تعود إلى بلادنا لتحررها من أهلها بقدراتهم وطموحاتهم لبناء مستقبلهم الأفضل في دول لهم تعاملهم كمواطنين هم أصحابها، بهم تكون ومن دونهم ـ بحقوقهم كمواطنين ـ لا تكون، فيمزقها «الدواعش» أو الآتون من أربع جهات الدنيا لتحريرهم من «الدواعش» ومن دولهم ومن أوطانهم ومن هوياتهم لكي يبدأ... التاريخ الجديد.