بقلم: غسان شربل
تدخَّلتْ روسيا عسكرياً في سوريا وهَا هِي تركيا تتدخل. كم تبدو المسافة شاسعة بين التدخلين والأسلوبين. بُني الأول على قراءة دقيقة لما هو ثابت وما هو متحول. على خطوات وئيدة مترابطة تنتظر اللحظة المناسبة وعلى قراءة دقيقة لميزان القوى. بُني الثاني على تسرُّعٍ مفرطٍ وتقديرات خاطئة للمناخات والمعادلات، وسرعان ما بدا مفتقراً إلى أي مظلة قانونية أو دولية.
اختارت السلطات التركية اسماً شاعرياً لعملية غزو شمال شرقي سوريا. من يسمع عبارة «نبع السلام» يخيل إليه أن قوة التدخل تابعة لوكالات الإغاثة أو الصليب الأحمر الدولي، وأنها تحمل الخيام إلى من يفتقدون سقفاً يحميهم والأغذية إلى من يَعضُّهم الفقر. وأظهرتْ ردود الفعل الأولى على العملية أننا أمام فصل جديد خطر في الحرب المفتوحة في سوريا. وأن إنهاءَ عملية «نبع السلام» سيكون أصعبَ بكثير من إطلاقها.
لا يتَّسعُ المجال هنا لتسجيل الانعطافات التي شهدتها السياسة التركية على نار الأزمة السورية، وأهمها نجاح سياسة التطويع الروسية للاعب التركي الذي تراجعت روحه الأطلسية فسلك طريق عملية آستانة، واشترى الصواريخ الروسية، وراح يلوِّحُ بإغراق أوروبا باللاجئين السوريين. وحين طوى التدخل العسكري الروسي عملياً صفحة المطالبات بإسقاط الرئيس بشار الأسد صار حلم إردوغان السوري مقتصراً على إسقاط «الكيان الكردي» الذي بدا متكئاً على شرعية مقاومة «داعش» وعلاقات عسكرية واستخباراتية وسياسية مع أميركا ودول «التحالف الدولي».
حاول إردوغان استدراج الولايات المتحدة إلى مشاركته مشروع «المنطقة الآمنة» داخل الحدود السورية. أبدت واشنطن مرونة وأرجأت الاستحقاقات، لكن إدارة دونالد ترمب ليست في وارد الانغماس في نزاعات جديدة، خصوصاً أن ترمب وعد أصلاً بإعادة الجنود من «تلك الحروب السخيفة التي لا نهاية لها». وحين يئس من الحصول على غطاء أميركي دائم لعمليته، نفذ إردوغان تهديده بالقيام بها منفرداً.
من التبسيط القول إن السبب الوحيد للعملية العسكرية التركية هو رغبة إردوغان في الهروب من الداخل، بعد تراجع شعبيته والنزف الحاصل في حزبه فالمسألة أكبر وأخطر من ذلك. لا بدَّ من الالتفات إلى قراءة المؤسسة العسكرية والأمنية لمستلزمات الأمن القومي على المدى الطويل، علاوة على أن بعض خصوم إردوغان في الداخل يشاطرونه الرغبة في اقتلاع «الحزام الكردي» الذي يتبلور داخل سوريا وعلى حدودها مع تركيا.
من يتابع مواقف إردوغان يكتشف أنه يبالغ في تقدير قوة تركيا وحاجة الآخرين إليها. هذا الأمر جعله يرتكب خطأ جدياً في قراءة المشهد الدولي. لن نسارع إلى التذكير بالخطأ الذي ارتكبه صدام حسين، فالإطار مختلف. لكن إذا كان يجوز لسياسي أن يرتكب المبالغات في خطبة حماسية انتخابية، فلا يجوز له الركون إلى سوء التقدير لإطلاق عملية عسكرية على أراضي دولة مجاورة.
أغلب الظن أن إردوغان ذهب بعيداً في تفسير قرار ترمب بسحب قسم من الجنود الأميركيين من شمال شرقي سوريا. اعتبره استقالة أميركية من مصير المنطقة وتأكيداً على غياب الشرطي الأميركي. ولعله راهن أن واشنطن لن تنحاز إلى مجموعات وتنظيمات محلية وتغامر بعلاقات قديمة مع دولة أطلسية بحجم تركيا، خصوصاً في ضوء التوتر الحالي مع إيران. وقد يكون اعتبر أن أميركا تحتاج تركيا أكثر مما تحتاج الأخيرة إليها. وقد يكون اعتبر أن روسيا المبتهجة بدق الإسفين داخل حلف الأطلسي لن تغامر بنسف ما تحقق في عملية اجتذاب تركيا. ولعله افترض أن أوروبا ستلزم الصمت مكتفية بألا يقرِّرَ السلطان تعريض القارة القديمة لأمواج جديدة وافدة من «نبع اللاجئين».
أظهرت ردود الفعل العربية والأوروبية والدولية أن السلطان أخطأ في التقدير وأخطأ في القراءة. تبدو المغامرة مكلفة للاقتصاد التركي أولاً. ثم ماذا لو وقع الجيش التركي في حرب استنزاف داخل المنطقة الآمنة وعلى أطرافها؟ عدم اشتعال الأرض السورية تحت أقدام الجيش التركي يجعل أنقرة محتاجة إلى تقديم تنازلات لكل من موسكو وطهران ودمشق وعواصم أخرى. ثم ماذا سيحدث إذا تبيَّنَ أن العملية التركية أعطت «داعش» فرصة ذهبية للإطلال مجدداً وأطاحت الجهود الدولية من أجل حل يطفئ النار السورية؟ للقرارات المتسرعة ثمن باهظ. وأغلب الظن أن إردوغان سيعود من مغامرته باقتصاد مثخنٍ وقدرٍ من العزلة لبلاده.
يغامر السلطان في منطقة مضطربة. ليتَه توقَّفَ عند براعة القيصر الذي يزور السعودية اليوم. السعي إلى استقرار المنطقة المضطربة هو العنوان الكبير لزيارته. علاقات مبنيَّة على القراءة الواقعية وفرص التعاون على رغم التمايزات. تعزيز التبادل التجاري والتعاون النفطي وفرص الاستثمار والتشاور السياسي والدبلوماسي. حوار بوتين مع «العربية» أكَّدَ ملامحَ هذه الدبلوماسية الروسية. وقدرته على جني ثمار عقدين من بناء القوة وفتح النوافذ ومد الجسور. روسيا القوية تقدم نفسها قوة استقرار، بعدما امتلكت قدرة التحدث إلى الجميع. صورة الإطفائي البارع الذي يحمي مصالحه بسكبِ ماءِ الواقعية على جمر الأزمات.
القراءة الواقعية شرطٌ للعلاقات الدولية المستقرة والمفيدة. يدرك بوتين أهمية السعودية العربية والإسلامية والدولية. يدرك أهميتَها الاقتصادية وحجمَ التحول الهائل الذي تشهده حالياً. يدرك في الوقت نفسه أبعادَ العلاقة الاستراتيجية التي تقيمها السعودية مع الولايات المتحدة التي ترسل حالياً إلى المملكة تعزيزات دفاعية للجمِ المغامرات الإيرانية. التطابق ليس شرطاً لحسن العلاقات.
في المقابل تدرك السعودية أن روسيا لاعبٌ دولي كبير، وأنها تتحدث اليوم من قلب منطقة الشرق الأوسط، وأن وجودَها في سوريا يعطيها قدرة أكبر على التأثير في مستقبل سوريا والمنطقة معاً، وأن فرصَ التعاون واسعة، وأن التطابق ليس شرطاً لتعميقها. وهذه كانت منطلقات الزيارات التي قام بها إلى موسكو الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. بناء العلاقات على الواقعية والأرقام والصدقية في التزام ما يتفق عليه.
كم يبدو أسلوب بوتين بعيداً عن أسلوب إردوغان. قَلَبَ الرئيس الروسي مجرى الأحداث في سوريا بتدخل عسكري لم يُوقعه في أفغانستان جديدة، بل جعله حاجة أكبر لدول المنطقة. عملية إردوغان في سوريا تنذر بتعريض بلاده للاستنزاف والعزلة. ليت السلطان تعلم من القيصر.