الأكيد أنّ آخر ما يحتاجه لبنان من إيران هو السلاح. آخر ما يحتاجه لبنان من إيران هو “منحة” أو “هبة” للجيش. المشكلة بين لبنان وإيران هي في السلاح أصلا. لا يمكن الجمع بين السلاح الإيراني ومساعدة لبنان. لبنان يريد التخلّص من السلاح الإيراني.
التخلّص من هذا السلاح يشكّل أكبر خدمة يمكن لإيران أن تؤديها للبنان واللبنانيين.. هذا إذا كانت تريد بالفعل أن تكون صادقة مع لبنان، بدل أن تعتبره “ساحة” أو ورقة من أوراقها في المفاوضات التي تجريها مع من كان في الأمس القريب “الشيطان الأكبر”.
أقحمت إيران نفسها في عملية تسليح الجيش اللبناني. جاء العرض المسمّى “منحة” أو “هبة” والذي يقال أن الحكومة اللبنانية قبلتها أثناء زيارة قام بها لبيروت علي شمخاني الأمين العام لمجلس الأمن القومي في إيران. التقى شمخاني أثناء الزيارة مسؤولي “حزب الله”، ورئيس مجلس الوزراء تمّام سلام، ثمّ رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي.
لم يكن في استطاعة رئيس مجلس الوزراء رفض العرض المقدّم، أقلّه شكلا، نظرا إلى أن الجيش، أي جيش، يرحب بشكل طبيعي بأي سلاح يمكن أن يحصل عليه. فكيف إذا كان الأمر متعلّقا بالجيش اللبناني في هذه المرحلة بالذات، وهي من أدّق المراحل التي يمرّ بها لبنان ومن أكثرها خطورة على الوطن الصغير؟
ما يفترض في إيران أن تعرفه، قبل الإعلان عن “هبة” للجيش، أن كلّ المطلوب أصلا هو تمكين القوات المسلّحة اللبنانية من ممارسة صلاحية محصورة بها هي حماية الأراضي اللبنانية. في استطاعة القوات المسلحة اللبنانية تنفيذ الصلاحية المنوطة بها في حال رفع العوائق التي تحول دون ذلك.
في مقدّمة هذه العوائق يأتي العائق الإيراني. هذا العائق ممثّل بـ“حزب الله” الذي ليس سوى ميليشيا مذهبية ذات عناصر لبنانية تابعة لإيران بصفة كونها لواء في “الحرس الثوري”. أمّا العائق الثاني الذي لا يقلّ أهمّية عن العائق الأوّل، فهو القرار الإيراني بتوريط “حزب الله” في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه من منطلق مذهبي.
عاد هذا القرار الإيراني بالكوارث على لبنان، وعلى المؤسسة العسكرية التي وجدت نفسها في وضع لا تُحسد عليه في عرسال خصوصا. المطلوب، قبل عرض السلاح على لبنان هو الإفراج عنه وعدم زجّه في الأتون السوري خدمة لأهداف مذهبية.
ليست صدفة أنّ زيارة شمخاني لبيروت جاءت في وقت كانت إيران تعرض عضلاتها في اليمن مع سيطرة الحوثيين، أي “أنصار الله” على صنعاء، مع ما رافق ذلك من إشارات أرادت طهران أن توحي من خلالها بأنّها اللاعب الأساسي في المنطقة، وأنّها صاحبة اليد الطويلة التي تصل إلى اليمن ذي الموقع الاستراتيجي. فلليمن ساحل طويل يمتد من بحر العرب إلى البحر الأحمر. ولليمن السيطرة على مضيق باب المندب ذي الأهمية الكبيرة. ولليمن حدود طويلة جدا مع المملكة العربية السعودية تصل إلى ألف وأربعمئة كيلومتر.
تريد إيران القول من بيروت، وليس من مكان آخر، أنّها صارت أيضا على الحدود السعودية، بعدما باتت تعتبر لبنان تحت سيطرتها، بما يجعلها دولة متوسطية من جهة، وعلى تماس مع إسرائيل من جهة أخرى.
أرادت إيران أن ينسى العالم والعرب الصفعة التي تلقتّها في العراق، حيث اضطرت إلى التخلي عن رجلها، أي عن نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، الذي لعب منذ العام 2010 دور التابع، خصوصا عندما صار مطلوبا من العراق تقديم كلّ مساعدة للنظام السوري وإرسال ميليشيات شيعية تقاتل في دمشق، وفي مختلف المناطق السورية.
حبّذا لو تتوقف الاندفاعة الإيرانية في اتجاه لبنان عند حدود دعم الدولة ومؤسساتها. لا يمكن دعم الجيش اللبناني والعمل، في الوقت ذاته، على إثارة الغرائز المذهبية، وتقوية ميليشيا اسمها “حزب الله” أقامت دولة في لبنان على حساب الدولة اللبنانية. بل بات في الإمكان القول، صراحة، أن هناك دويلة لبنانية تدور في فلك دولة “حزب الله”.
لا يمكن مساعدة لبنان، بالسلاح وغير السلاح، ما دامت إيران تعطّل عن طريق “حزب الله” وسلاحه انتخاب رئيس جديد للجمهورية، هو رئيس الدولة المسيحي الوحيد في الشرق الأوسط.
بكلام أوضح، لا يمكن التوفيق بين دعم الجيش اللبناني وبين تدمير مؤسسات الدولة اللبنانية، على رأسها رئاسة الجمهورية، خصوصا أن على الجيش اللبناني الآن مواجهة “داعش” التي جاء بها “حزب الله”، ولا أحد آخر غيره إلى لبنان.
جميلة الشعارات التي رفعها المسؤول الإيراني في بيروت. جميلة التصريحات التي أدلى بها. ما قد يكون أجمل من ذلك، عودته إلى بيروت قريبا للقول إن السلاح الوحيد الذي يجب أن يكون على الأرض اللبنانية، هو سلاح الجيش اللبناني وليس أي سلاح آخر.
فما يسمّى سلاح “المقاومة” الذي يحمله “حزب الله” موجّه الآن إلى صدور اللبنانيين والسوريين، وهو سلاح يثير الغرائز المذهبية التي هي في خطورة ما يدعو له “داعش”. هذا السلاح يمثّل مع حامليه الوجه الآخر لـ“داعش”. إنه، بكلّ بساطة، في خدمة “داعش”، ومن على شاكلة “داعش” من منظمات إرهابية متخلّفة.
هل في استطاعة إيران القيام بنقلة نوعية في لبنان.. في حال كانت تريد خدمة الوطن الصغير وليس المتاجرة به؟
هذه النقلة النوعية المطلوبة من إيران تتقدّم على السلاح الذي لا هدف من عرضه سوى المزايدة على المملكة العربية السعودية التي لا أطماع لها في لبنان، بل تستضيف عشرات آلاف العائلات اللبنانية، من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق يعملون فيها ويرسلون مساعدات لأهلهم في لبنان كي يعيشوا بشكل محترم.
هذه النقلة النوعية تتلخص في عبارة “رفع اليد عن لبنان” لا أكثر. اللبنانيون ليسوا بالغباء الذي تعتقده طهران. إنّهم يعرفون جيدا الهدف المحدد من السلاح الذي تعرضه. إنّه ليس سوى استثمار آخر في عملية إثارة الغرائز المذهبية في المنطقة العربية بغية تفتيتها. من يحتاج إلى دليل على ذلك، يمكنه التأمّل في ما حلّ بسوريا بفضل السلاح الإيراني والميليشيات التي تنتمي إلى المدرسة الإيرانية.