خيرالله خيرالله
بالسرعة ذاتها التي وصل فيها الى المنصب، استقال رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمدالله. استقال أو لم يستقل، قبول الاستقالة أم عدم قبولها.... ليست تلك المسألة. نعم، انّها ليست المسألة، علما أن لا بدّ من الاعتراف بأن الرجل، أي الحمدالله، امتلك حدا أدنى من الشعور بضرورة المحافظة على الكرامة الشخصية كي يقدّم استقالته الى رئيس السلطة الوطنية محمودعبّاس (أبو مازن) ويعود الى بيته غير نادم على المنصب الذي هرب منه. المسألة في مكان آخر. انها ازمة فلسطينية في العمق وليست أزمة رئيس للوزراء وحكومة. انها أزمة ناجمة في جانب منها عن التلهي بالقشور بدل التركيز على المهمّ، أي على مواجهة الاحتلال بطريقة ناجعة بعيدا عن التمسك بمظاهر السلطة...التي ليس لديها شيء من السلطة.
جاءت الاستقالة، التي قُبلت اخيرا، بعد اسبوعين تقريبا من تعيين الحمدالله، رئيس جامعة النجاح في نابلس، رئيسا للوزراء خلفا للدكتور سلام فيّاض. ربّما كانت مشكلة سلام فيّاض تكمن في أنه جعل من موقع رئيس الحكومة شيئا فضلا عن أنه صار المحاور الاساسي للمجتمع الدولي في شأن كلّ ما له علاقة بالداخل الفلسطيني والوضع المعيشي للمواطن.
نجح سلام فيّاض في اعادة الحياة الى المؤسسات الفلسطينية وكسب احترام المجتمع الدولي، خصوصا المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كذلك الادارة الاميركية والحكومات الاوروبية، وكلّ من هو مستعد لمساعدة الفلسطينيين.
بنى اسسا لمؤسسات دولة قد ترى النور يوما. يمكن أن يكون ذلك كافيا لدفعه الى الاستقالة واستبداله بمجرد موظّف ينفّذ اوامر وتعليمات تصدر اليه. وهذا ما رفضه حتى رامي الحمدالله الذي يبدو أنه لا يزال يحتفظ ببعض العقلانية الى درجة تسمح له بأن يدرك جيدا أن موقع رئيس الوزراء لا يساوي شيئا في غياب القدرة على ممارسة صلاحيات معينة واضحة تماما منوطة بالموقع.
خلاصة الامر، ان شخصا عاديا وطبيعيا يمتلك مؤهلات اكاديمية مثل رامي الحمدالله بات يتردد في الاستمرار في موقع رئيس الوزراء بعدما اكتشف أن المطلوب منه أن يكون مجرد موظّف يديره نائبان لرئيس المجلس الوزراء يؤكّدان له يوميا أنّ هناك نظاما رئاسيا فلسطينيا لا مكان فيه لغير شخص واحد يهيمن على المشهد، كلّ المشهد.
مثل هذا التطوّر الفلسطيني مستغرب، خصوصا أن "ابو مازن" شخص معروف قبل كلّ شيء بأنه عقلاني وأنه يعرف تماما طبيعة العلاقة القائمة بين السلطة الوطنية من جهة والمؤسسات المالية العالمية من جهة أخرى، فضلا عن مدى تمسّك المجتمع بوجود رئيس للوزراء، من طينة سلام فيّاض، قادر على تأمين حد ادنى من الشفافية والثقة بالمؤسسات والاجهزة الفلسطينية وطريقة عملها. الآهمّ من ذلك كلّه، أن الرئيس الفلسطيني يعرف أنّ هناك انجازا تحقق اسمه تحويل الضفّة الغربية أرضا غير طاردة لأهلها. وأن هذا الانجاز الذي يعود الفضل فيه، في بعض الجوانب، الى الرئاسة الفلسطينية ما كان ممكنا لولا حكومة سلام فيّاض.
يظلّ هذا الانجاز أفضل خدمة يمكن اسداؤها للشعب الفلسطيني في مقاومته الاحتلال وطموحاته التي تصبّ في تكريس الامر الواقع المتمثل في ضمّ جزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. انّه انجاز استثائي في حال اخذنا في الاعتبار أن حكومة بنيامين نتانياهو لا تريد تسوية من أيّ نوع كان نظرا الى ايمانها بأنّ الوقت يعمل لمصلحتها وأن الاستيطان سيتكفل بجعل الفلسطينيين يقتنعون بأن خيار الدولة المستقلة غير قابل للتحقيق الاّ في سياق الشروط الاسرائيلية!
لم يفت بعد أوان العودة عن الخطأ والاعتراف بأن حكومة سلام فيّاض كانت أفضل شيء حدث للفلسطينيين وأن المطلوب اليوم قبل غد هو الاستعانة بأفضل العقول الفلسطينية أكانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية بدل الاتكال على الموظفين الصغار الذين لا يحسنون قول شيء آخر غير كلمة نعم.
في النهاية، ان الكبير لا يخاف الكبار. على العكس من ذلك، انه يكبر بهم، خصوصا عندما يضعهم الى جانبه. هذا ما يحتاجه الفلسطينيون حاليا في خضم هذه المعركة التي يواجهون فيها حكومة اسرائيلية شرسة لا تؤمن سوى بتكريس الاحتلال وتوسيع الاستيطان.
مرّة أخرى، ليس مهما أن يستقيل رامي الحمدالله. الرجل لديه كرامته ولديه امكانات معينة قد تصلح لجامعة النجاح. لكنّ الموضوع الفلسطيني المرتبط بالحكومة وشخص رئيس الوزراء أمر آخر مختلف تماما.
ثمة حاجة الى عقل سياسي واقتصادي في الوقت ذاته. ثمة حاجة الى من يمتلك ما يكفي من الشجاعة كي يعترف بأن القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب الاولى، خصوصا منذ بدأ الزلزال العراقي في العام 2003 وبداية ظهور الشرخ المذهبي في المنطقة...والتورط الايراني في الحرب التي يشنها النظام السوري على شعبه من منطلق مذهبي يثير القرف.
كذلك، ثمة حاجة الى الاعتراف بأن ليس لدى الفلسطينيين من خيار آخر غير خيار مساعدة انفسهم بأنفسهم من جهة والابتعاد عن وهم المصالحة مع "حماس" من جهة أخرى. "حماس"، وهي جناح في الاخوان المسلمين مهتمة بتغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني وليس بزوال الاحتلال. كلّ ما تريده هو المحافظة بأيّ ثمن على امارتها الطالبانية في غزة...في انتظار سقوط الضفة في يدها في الوقت المناسب. هذا هو رهان "حماس"، وهو رهان لا علاقة له بالمصالحة أو باقامة دولة فلسطينية "قابلة للحياة"...أو حقوق الشعب الفلسطيني.
الاكيد أن الوضع الفلسطيني صعب، خصوصا مع انسداد الآفاق السياسية. ما هو أكيد أكثر من ذلك أن ليس في الامكان مواجهة الصعوبات بوضع موظّف في موقع رئيس الوزراء، موظّف لا همّ لديه الاّ ارضاء "الرئيس".
لا شكّ أن "أبو مازن" نفسه، الذي يعرف معنى هذه التجربة التي سبق له أن مرّ بها، لا يمكن أن يرضى بذلك. فلو كان "أبو مازن" يقبل بمثل هذه المعادلة، لما كان استقال عندما أصبح رئيسا للوزراء أيام كان ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، لا يزال رئيسا. هل من يريد العودة بالذاكرة الى تلك المرحلة، أقلّه من أجل تفادي الوقوع في أخطاء الماضي القريب جدا؟