هناك تفاهم ضمني بين اسرائيل و'حماس' على رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة تضم الضفة الغربية وغزة وتكون القدس الشرقية عاصمتها.
في ذكرى مرور سنة على الحرب الأخيرة التي تعرّض لها قطاع غزّة، حرصت “حماس” على تغطية المفاوضات الدائرة مع إسرائيل من أجل التوصل إلى هدنة طويلة، بعرض عسكري.
رافق العرض، الذي شهدته غزّة، إعلان أحد القادة العسكريين في “حماس” عن حصول الحركة على نوعين جديدين من الصواريخ. لا هدف من إعلان من هذا النوع غير تبرير الهدنة غير المعلنة التي سيتمّ التوصل إليها مع إسرائيل. فالسؤال الذي لا يزال يطرح نفسه منذ فترة طويلة، أي منذ استيلاء “حماس” على غزّة، في غاية البساطة. فحوى السؤال هل كانت إسرائيل يوما ضدّ “حماس” وضدّ إقامة “إمارة إسلامية” في القطاع؟ هل كانت إسرائيل يوما ضدّ حصول “حماس” على أسلحة بطرق مختلفة من أجل بسط سلطتها في غزّة ورفع شعارات تصبّ في خدمة سياستها؟ هل كانت إسرائيل يوما ضدّ أن تكون “حماس” وما شاكلها وجه الشعب الفلسطيني وواجهته؟
لم يتغيّر شيء في السياسة الإسرائيلية منذ تولّى أرييل شارون رئاسة الوزارة في فبراير من العام 2001. تقوم هذه السياسة على عبارة واحدة هي أنّ “لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه”.
توفّر “حماس” للأسف الشديد خير من يدعم هذه السياسة، إن عبر الصواريخ العبثية التي كانت تطلقها من القطاع.. أو عبر الشعارات التي ترفعها من نوع أن أرض فلسطين كلّها “وقف إسلامي” وأن المقاومة مستمرّة حتى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر أو من النهر إلى البحر، لا فارق.
بعد سنة على حرب غزّة الأخيرة، يتبيّن أنّ “حماس” مطمئنة أكثر من أيّ وقت للدور الذي لعبته والذي لا تزال تلعبه. إنّها مطمئنة خصوصا إلى استمرار الحصار الإسرائيلي. مثل هذا الحصار يؤمّن لها الاستمرار في سياسة القمع التي تمارسها في القطاع. فالحركة، التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين، تعمل من أجل تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني قبل أيّ شيء آخر. تغيير طبيعة المجتمع وجعله مجتمعا بائسا، لا علاقة له بالمجتمع الفلسطيني الذي عرفناه، هدف في حدّ ذاته. مثل هذا التغيير، الذي يقوم على نشر التخلّف بأبشع أشكاله، يشكّل ضمانة كي تستمرّ “الإمارة الإسلامية” بغض النظر عمّا يحلّ بالمشروع الوطني الفلسطيني الذي كان المجتمع الدولي يدعمه، أقلّه ظاهرا.
لو لم يكن الأمر كذلك، لكانت “حماس” عملت منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزّة، صيف العام 2005، على المساعدة في قيام نواة لدولة فلسطينية حضارية بما يساعد في إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني. إنّه المشروع القائم على حلّ الدولتين الذي بات جزءا من الماضي، وإن لمرحلة معيّنة. حتّى فرنسا، التي كان مفترضا أن تقدّم قبل أيّام مشروع قرار إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للتذكير بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلّة، تراجعت أخيرا عن خطوتها.
لو كانت “حماس” صادقة في خدمة الشعب الفلسطيني، لكانت أوّل ما فعلته المساهمة في القضاء على فوضى السلاح في غزّة وعمل كلّ شيء من أجل أن يكون القطاع نموذجا لما يمكن أن تكون عليه دولة فلسطينية مستقلة قادرة على العيش بسلام مع محيطها.
كانت الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزّة حربا وحشية بالفعل. مارست إسرائيل إرهاب الدولة بأبشع أشكاله فيما وقف العالم يتفرّج. هناك أحياء بكاملها زالت من الوجود وهناك عائلات أُفنيت عن بكرة أبيها. إلى الآن، لا تزال هناك عائلات مشرّدة. هناك أيضا عائلات تعيش في خيام منذ حرب أواخر 2008 وبداية 2009.
حال أهل غزّة آخر همّ لدى “حماس”. يبدو الآن أن الحرب الأخيرة حققت الأهداف المرجوة إسرائيليا وحمساويا. قبل كلّ شيء، هناك تفاهم ضمني بين إسرائيل و”حماس” على رفض قيام دولة فلسطينية مستقلّة تضمّ الضفّة الغربية وغزة وتكون القدس الشرقية عاصمتها. بعد ذلك، يمكن لـ”حماس” الانصراف إلى ما تصبو إليه انطلاقا من غزّة.
ما تصبو إليه “حماس” في المرحلة الراهنة هو ما كانت تصبو إليه منذ سنوات عدة. هدفها الأول مصر وإثارة المشاكل لمصر، خصوصا بعد خروج الإخوان من السلطة نتيجة ثورة شعبية. ليس سرّا أنّ الإرهابيين الذين يستهدفون الجيش المصري في سيناء يمتلكون قاعدة خلفية في غزّة.
الأكيد أن إسرائيل لا تعارض أيّ توجه لدى “حماس” يؤدي إلى التركيز على مصر. فمثلما رحبّت بانغماس “حزب الله” في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه، ليس ما يشير إلى أنّها تعترض على الاستهداف الحمساوي لمصر.
خلاصة الأمر أنّ اسرائيل حققت ما تريده. انسحبت من كلّ غزّة من أجل الإمساك بطريقة أفضل بالضفّة الغربية المحتلة. هذا ما قاله صراحة دوف فايسغلاس مدير مكتب أرييل شارون في حديث طويل إلى صحيفة “هآرتس” مباشرة بعد الانسحاب.
مع مرور الوقت، تبيّن أن “حماس” ساعدت إسرائيل كثيرا في ذلك، خصوصا بعد الانقلاب الذي نفّذته على السلطة الوطنية الفلسطينية صيف العام 2007 وبعدما راحت تطلق الصواريخ على بلدات إسرائيلية بطريقة عشوائية. جعلت الصواريخ المجرم، الذي يصرّ على احتلال أرض الغير، يظهر أمام العالم وكأنّه الضحية، في حين أنّ الضحية الحقيقية هي الشعب الفلسطيني العاجز عن ممارسة حقوقه “غير القابلة للتصرّف” المعترف بها دوليا.
حقّقت “حماس” ما تريده. تستطيع الآن بعدما ثبّتت “إمارتها” الانصراف إلى مناكفة مصر في وقت بدأ الاهتراء يظهر على السلطة الوطنية الفلسطينية وعلى منظمة التحرير وعلى “فتح”. صار همّ السلطة الوطنية محاربة الدكتور سلام فيّاض والتضييق عليه وعزل ياسر عبدربّه الذي كان إلى ما قبل فترة قصيرة أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
كلّ ما يمكن قوله في نهاية المطاف إن الحرب الأخيرة التي تعرّضت لها غزة أدت غرضها إن إسرائيليا وإن حمساويا. كلّ كلام عن مصالحة فلسطينية وعن سلطة وطنية لديها حكومة تعمل في غزّة والضفّة الغربية في الوقت ذاته، صار كلاما فارغا. هناك تكريس للانفصال بين الضفة وغزّة، بل للطلاق بينهما. هل كانت حاجة إلى كلّ هذا الدمار وكلّ هؤلاء الضحايا، بما في ذلك 558 طفلا فلسطينيا قتلتهم إسرائيل في الحرب الأخيرة للوصول إلى ما وصلنا إليه؟
في كلّ الأحوال، هناك خاسر واحد. هذا الخاسر هو الشعب الفلسطيني وقضيتّه. الشعب صامد والقضية لم تنته. لكن الحاجة إلى جهود كبيرة في السنوات القليلة المقبلة كي يتبيّن مجددا أنه لا يزال من السابق لأوانه احتفال اسرائيل بدفن خيار الدولتين..