خيرالله خيرالله
كانت الطريق الى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي تعقدجلستها الاولى الخميس، طويلة. دماء كثيرة بذلت من أجل الوصول الى هذا اليوم الذي يشير الى أن العدالة لا يمكن الاّ أن تأخذ مجراها، ان في لبنان وان في سوريا، وأنّ القاتل لا يمكن الا أن يجد من يحاسبه. سينصف التاريخ لبنان واللبنانيين عبر دماء رجل قال يوما: "ما حدا أكبر من بلده". وقد تبيّن ان هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن رفيق الحريري كان في حجم دولة وكان الهدف من التخلّص منه التخلّص من لبنان لا أكثر ولا أقلّ...
ما نشهده نقطة تحوّل في تاريخ الوطن الصغير وفي سوريا أيضا. للمرّة الاولى منذ الاستقلال اللبناني، هناك محاكمة للقاتل ولمن وراء القاتل. في كلّ الجرائم السياسية الكبيرة التي ارتكبت في لبنان، كان هناك دائما تجهيل للطرف الذي اختار القاتل وحدّد له مهمّته.
يظهر اليوم، مع قرب انعقاد المحكمة الدولية التي تشكلت اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، أنّ شيئا ما تغيّر في العمق في الشرق الاوسط عموما وفي لبنان تحديدا. لم تنفع الجرائم التي ارتكبت في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري في تغطية الجريمة الاصلية. حتى وضع اليد على البلد لم يعد ينفع. هناك انقلاب تتوالى فصوله منذ ما قبل تفجير موكب رفيق الحريري عندما جرى التمديد لاميل لحود على الرغم من صدور القرار 1559 عن مجلس الامن التابع للامم المتحدة وتلته مباشرة محاولة اغتيال مروان حماده في أو تشرين الاوّل- أكتوبر 2004. هذا الانقلاب، الذي شمل في فصل من فصوله استحضار حرب اسرائيلية على لبنان صيف 2006 واحتلال وسط بيروت لتعطيل الحياة الاقتصادية في البلد ثمّ غزو المدينة، لم يحل دون انعقاد المحكمة الدولية. سمّت المحكمة المتهمين الخمسة الاول. معروفة الجهة التي ينتمون اليها. وستسّمي عاجلا أم آجلا المتّهم الاساسي، أو المتّهمين الاساسيين الحقيقين اللذين يقفان وراء الجريمة والاعداد لها.
كان رفيق الحريري على حقّ عندما قال بالحرف الواحد قبل أقلّ من ثماني وأربعين ساعة من اغتياله، مساء السبت في الثاني عشر من شباط- فبراير 2005 تحديدا: "الذي سيقتلني مجنون". القاتل مجنون بالفعل لأنّه لم يدرك أن الجريمة لن تمرّ على غرار ما حصل بعد اغتيال كمال جنبلاط في العام 1977 ثم بشير الجميّل والمفتي حسن خالد ورينيه معوّض وعشرات آخرين. لم يوجد في الدولة اللبنانية من يسعى بالفعل الى السير حتى النهاية في التحقيق في كلّ جريمة من هذه الجرائم الموصوفة.
كانت حسابات القاتل خاطئة هذه المرّة. كان يعتقد أن المسألة مسألة اسبوع في أبعد تقدير، وينسى الناس رفيق الحريري. لذلك طلب اميل لحود في اوّل جلسة لمجلس الوزراء انعقدت بعد الجريمة اعادة فتح الطريق أمام فندق سان جورج، حيث مسرح الجريمة، وذلك "كي ينصرف الناس الى اشغالهم". قد لا يكون اميل لحّود لعب دورا محوريا في الجريمة، لكنّ تصرّفه في مجلس الوزراء كان تعبيرا دقيقا عن طريقة تفكير الذين خططوا لها وكلّفوا مجموعة معيّنة تنفيذها. كانوا يظنون أن الحدث سيكون عابرا، الى أن تبيّن أنه زلزال هزّ المنطقة. من كان يصدّق أن الجيش السوري سيخرج يوما من لبنان؟ من كان يصدّق أن النظام السوري سينهار بالطريقة التي انهار بها ولن يعود أمامه سوى الاستسلام كلّيا لايران؟
من اغتيال رفيق الحريري وصولا الى اغتيال محمّد شطح، ما زال لبنان يتعرّض الى اعتداء تلو الآخر. يبدو القاتل على استعداد لتدمير لبنان من أجل تغطية الجريمة الكبرى وسلسلة الجرائم التي ارتكبها والتي استهدفت اللبنانيين الشرفاء الذين لم يكن لديهم في يوم من الايّام وهم في شأن نيات النظام السوري وكلّ من يستخدمه في عملية تدمير لبنان ومؤسساته تحت شعار "المقاومة". هذا الشعار الذي يتبيّن كلّ يوم انّه مجرّد غطاء لمحاربة ثقافة الحياة وتحويل لبنان مجرّد مستعمرة ايرانية خلفا لمرحلة الوصاية السورية. هذا كان الهدف البعيد المدى لاغتيال رفيق الحريري ورفاقه وما تلا ذلك من جرائم شملت اغراق البلد بالتكفيريين من نوع "فتح الاسلام" الذين هم صناعة النظام السوري والذين يسيّرونه من طهران...
تمثّل المحكمة الدولية جذوة الامل الباقية لدى كلّ لبناني يحلم باستعادة بلده. يعكس انعقاد الجلسة الاولى للمحكمة رغبة المجتمع الدولي واصراره على انقاذ ما يمكن انقاذه من لبنان. ويعكس في الوقت ذاته وجود لبنانيين ما زالوا على استعداد لبذل الغالي والرخيص من أجل الوصول الى اليوم الذي تتحقق فيه العدالة. في طليعة هؤلاء الرئيس سعد الدين رفيق الحريري الذي أكّد بفضل صموده وتمسّكه بمبدأ العدالة أن هناك لبنانيين ينتمون الى تيّار المقاومة الحقيقية التي من دونها لا مستقبل للبلد. انّه التيار المقاوم لثقافة الموت واثارة الغرائز المذهبية وتوظيفها في خدمة مشروع القضاء على لبنان.
ساهم هؤلاء المقاومون، كلّ على طريقته في الوصول الى يوم انعقاد المحكمة. انه يوم كلّ الشهداء، من بينهم وسام الحسن ووسام عيد بشكل خاص وقد دفعا غاليا ثمن مساهمتهما الفعّالة في كشف المجرمين ومن يقف خلفهم.
انّه يوم المقاومة الحقيقية، يوم باسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار أمين الجميّل وانطوان غانم وفرنسوا الحاج ومحمّد شطح. انه يوم الشهداء الاحياء مروان حماده والياس المرّ ومي شدياق. انّه أيضا يوم اللبنانيين الذين ادركوا منذ البداية معنى اغتيال رفيق الحريري بالطريقة التي اغتيل بها وما الذي يريده العقل الجهنمي الذي وراء الجريمة. هؤلاء صنعوا الاستقلال الثاني وما زالوا يقاتلون من أجل منع انهيار لبنان...هؤلاء لا يمكن الا أن ينتصروا، خصوصا أنّ زمن العدالة تجاوز لبنان الى سوريا. لم يعد بعيدا اليوم اليوم الذي سيصل فيه الى ما هو أبعد من سوريا، نعم، الى ما هو أبعد من سوريا والنظام القاتل فيها...