خيرالله خيرالله
ما يفسّر غضب تركيا- الاخوان من مصر، أن مصر كشفت طبيعة السياسة التركية التي يتّبعها رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان. لم تعد هذه السياسة سرّا عسكريا بعدما تبيّن ان لا هدف لتركيا الاّ الترويج للاخوان المسلمين بغض النظر عن الطريقة التي وصلوا بها الى السلطة أو عجزهم عن امتلاك أي مشروع من شأنه النهوض بالمجتمع في هذا البلد العربي أو ذاك. اضافة الى ذلك، يعكس التدهور في العلاقات بين القاهرة وأنقرةالفشل التركي على الصعيد الاقليمي، خصوصا في مجال استعادة، ما كان في الماضي سلطنة عثمانية، دور الدولة القادرة على لعب دور ايجابي في كلّ انحاء الشرق الاوسط...وصولا الى شمال افريقيا.
أكّد ابعاد السفير التركي في القاهرة أنّليس في استطاعة مصر أن تكون تابعا لتركيا- الاخوان وأن تتلقى دروسا في الديموقراطية من رجب طيّب اردوغان أو غيره، وذلك في وقت تتراجع فيه الديموقراطية في تركيا نفسها. لم يعد هناك بكلّ بساطة نموذج تركي يستطيع اردوغان تسويقه في أي دولة من دول المنطقة، خصوصا بين العرب.
لم يعد ممكنا ترويج النموذج التركي، لسببين على الأقلّ. الاوّل أن اردوغان فشل فشلا ذريعا في كلّ خطوة أقدم عليها في المنطقة والآخر أن رئيس الوزراء التركي لا يعرف شيئا عمّا جرى ويجري في الداخل المصري. لا يستطيع اردوغان أن ينظر الى مصر الاّ من زاوية واحدة، هي زاوية الاخوان المسلمين الممسكين بكلّ السلطة في الدولة العربية الاهمّ. هل يمكن اختزال مصر بالاخوان؟ الى اشعار آخر، هذا الافتراض من رابع المستحيلات.
يرفض اردوغان حتى الاعتراف بأنّمصر شهدت يوم الثلاثين من حزيران- يونيو الماضي ثورة شعبية حقيقية. لم يكن الامر انقلابا عسكريا في أي شكل. اذا كانت لدى اردوغان وحزبه عقدة العسكر، فانّ المصريين لا يعانون من هذه العقدة، خصوصا أنّ المؤسسة العسكرية المصرية باتت تعرف حدودها من جهة وقد حصرت مهمّتها في دعم ما يطالب به الشعب، بأكثريته، من جهة أخرى.
لو لم تكن المؤسسة العسكرية المصرية تعرف حدودها، لما كانت استوعبت أن الثورة التي أطاحت نظام الرئيس حسني مبارك كانت ثورة بالفعل ولما كانت دعمت العملية التي أدت الى خروج مبارك من السلطة بأقلّ مقدار ممكن من الخسائر، بما في ذلك الخسائر البشرية.
كانت المؤسسة العسكرية جزءا من "ثورة الخامس والعشرين من يناير" التي خطفها الاخوان المسلمون، باعتراف وزير الخارجية الاميركي أخيرا. سرقوا الثورة مطلع العام 2011 بعدما قدموا كلّ الوعود المطلوبة في شأن التمسّك بالنهج الديموقراطي والمحافظة على مؤسسات الدولة، على رأسها القضاء المستقلّ والاجهزة الامنية. تبيّن بما لا يقبل الشكّ أن الهدف الوحيد للاخوان، الذين لم يلتزموا أي وعد من وعودهم، كان يتلخّص بتكرار ما قام به العسكر بعد انقلاب 1952، أيّ الاستيلاء على كلّ مفاصل السلطة...بما يضمن سقوط مصر تحت هيمنة الحزب الواحد.
تغيّر العسكر في مصر. ولم يتغيّر الاخوان فيها. كلّ ما فعلته المؤسسة العسكرية المصرية يتمثّل في دعم خيارات الشعب المصري الذي يتطلّع الى قيام نظام ديموقراطي عصري وليس الى استبدال الاخوان بالعسكر.
وجد المصريون في المؤسسة العسكرية ضمانة لهم ولاستمرار مؤسسات الدولة الضاربة في التاريخ، نظرا الى أنّ عمرها آلاف السنين. ولكن أهمّ ما رفضه المصريون هو أن يكون بلدهم جرما يدور في الفلك الاخواني الذي تسيّره تركيا- اردوغان. رفض المصريون بكلّ بساطة أن يكون على رأس مصر رئيس ضعيف اسمه محمّد مرسي، لا يمتلك أي مشروع حضاري أو اقتصادي أو اجتماعي من أي نوع كان باستثناء تغيير طبيعة المجتمع المصري نحو الاسوأ كي يسهل تحويل مصر الى تابع لتركيا.
لا بدّ من الاعتراف بأنّ تركيا تمثّل نجاحا اقتصاديا باهرا. في الاشهر العشرة الاولى من هذه السنة، جاء الى تركيا ما يزيد على ثلاثين مليون سائح. هذا النجاح ليس عائدا الى أن الاخوان صاروا في السلطة، بل عائد اساسا الى مساعدتهم في المحافظة، الى حدّ ما، على مؤسسات الدولة المدنية ومكافحة الفساد وطرح مشاريع اقتصادية طموحة والمحافظة على الامن والاستقرار في الوقت ذاته. وهذا يعني أن اخوان تركيا في الداخل تصرّفوا على العكس تماما من تصرّف الاخوان في مصر بعد وصولهم الى رئاسة الجمهورية.
لم يبدأ الاخوان في تركيا العمل على المس بالدولة المدنية الا حديثا. وهذا المس أثار قسما لا باس به من المجتمع التركي وسيخلق مشاكل كثيرة للاخوان مستقبلا ويمكن أن يحبط مشروع اردوغان الهادف الى اقامة نظام رئاسي قويّ يجلس على رأسه.
أن تطرد مصر السفير التركي دليل على أن مصر تعرف ماذا تريد. لعلّ أكثر ما تعرفه مصر أنّ كلّ مكان في المنطقة تدخلّت فيه تركيا جلب على أهل هذا المكان الخراب. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، خذلت تركيا الشعب السوري. صعّدت كلاميا مع نظام بشّار الاسد الفئوي الى أبعد حدود. ولكن على أرض الواقع، لم تفعل ما يمكن أن يحمي السوريين من وحشية النظام. لم تستطع حتى اقامة مناطق آمنة داخل سوريا يستطيع السوريون العيش فيها في ظروف شبه طبيعية بعيدا القصف الذين يتعرّضون له من الجو خصوصا.
تبيّن أن السوريين لا يستطيعون الاتكال على تركيا- اردوغان في أي شكل وأن الكلام التركي عن ضرورة رحيل الاسد الابن لا يزال الى الآن كلاما. أكثر من ذلك، اكتشف السوريون أن ليس في استطاعتهم سوى الاتكال على أنفسهم في حال كانوا يريدون التخلص من الظلم والطغيان والغرائز المذهبية والتطرّف والتبعية لايران...
ما ينطبق على سوريا، ينطبق أيضا على غزّة. بدل أن تدعم تركيا السلطة الوطنية الفلسطينية وتسعى الى اعادة "حماس" الى رشدها، باعت الفلسطينيين الاوهام. أرسلت سفينة "مرمرة" في السنة 2010 لفكّ الحصار الاسرائيلي عن غزة. كانت العملية فاشلة الى حدّ كبير. لا يزال الحصار الاسرائيلي مستمرّا. الجديد أنّ غزة تحوّلت بفضل الدعم التركي الى بؤرة ارهابية لا أكثر تساعد في زعزعة الاستقرار المصري.
يحصل ذلك لأنّ تركيا لا ترى سوى الاخوان. عندما يكون هؤلاء في السلطة، وحتى خارجها، عليها دعمهم...بغض النظر عن الاضرار التي تلحق بهذا الشعب العربي أو ذاك.
يكفي التمعّن في ما يدور في سوريا وغزّة للتأكد من أن ليس لدى تركيا من دروس تعطيها الى أي طرف خصوصا مصر. لا نريد بالطبع التحدث عن الفشل التركي في تونس وليبيا وحتى لبنان. كلّ ما هو مطلوب أن يستوعب اخوان تركيا أن النموذج الذي يطرحونه كان صالحا لتركيا فقط، وأن اقصى ما يستطيعون عمله المحافظة على هذا النموذج، أي نموذج الدولة المدنية التي بدأت تظهر لديهم ميول الى ضربها والقضاء عليها، بدءا بحقوق المرأة ووضعها الاجتماعي وصولا الى التعليم...