من بين الأسئلة التي لم تعد من حاجة إلى طرحها هذه الأيّام، هل المنطقة في حال حرب؟ نعم، إنّها في حال حرب ولكن على طريقة الحروب الجديدة التي لا حاجة فيها إلى استخدام السلاح إلّا في حالات استثنائية من نوع الضربات التي توجهها إسرائيل إلى الوجود الإيراني وتوابعه في الأراضي السورية والعراقية وحتّى في لبنان حين تدعو الحاجة إلى ذلك.
من الواضح أنّ لإسرائيل حسابات خاصة بها. هذا ما يفترض في بلد مثل لبنان إدراكه. هذه الحسابات مرتبطة بالحسابات الأميركية وهي في معظم الأحيان مكملة لها. لكنّها في النهاية حسابات إسرائيلية. لذلك، نجد كلّ هذا التأييد الأميركي لكلّ ما تقوم به إسرائيل في المنطقة.
يحصل ذلك في ظلّ قبول عربي ضمني للوضع السائد، في معظم الأحيان، بعدما وفّرت إيران كلّ ما تحتاج إليه الدولة العبرية كي تسرح وتمرح حيث تشاء وكيفما تشاء وكي تجعل القضيّة الفلسطينية قضيّة منسية، أقلّه في المدى المنظور.
في وجه الخطر الإيراني الذي يهدّد كلّ مجتمع من المجتمعات العربية، لم يعد من حاجة إلى ممارسة المزايدات في المجال الفلسطيني. صار على كلّ دولة عربية لا تزال فيها حكومة مركزية قويّة النظر إلى مصلحتها أوّلا. تقضي هذه المصلحة بحماية نفسها ومجتمعها من كلّ ما يهدّدهما، خصوصا من خطر إثارة الغرائز المذهبية التي تبقى العنصر الأهمّ في الهجمة الإيرانية على دول الجوار وما هو أبعد من دول الجوار…
هناك على الأرض، حرب إيرانية، وهناك حرب إسرائيلية، وهناك حرب أميركية. تصبّ كلّ هذه الحروب في حرب واحدة تستهدف تمزيق الشرق الأوسط إربا بعدما تبيّن بالعين المجرّدة أن الدولتين الأهمّ فيه، أي سوريا والعراق، هما دولتان فاشلتان لن تقوم لهما قيامة يوما.
من أولى نتائج هذه الحروب كان وضع القضيّة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني على الرف. ليست فلسطين والقدس، بالنسبة إلى إيران، سوى مادة تجارية تستخدم في لعبة المزايدة على العرب بهدف إحراجهم. أمّا الحرب الحقيقية لإيران، فهي في العراق وسوريا ولبنان. وهذا ما كشفه باكرا للعالم، وللعرب أيضا، الملك عبدالله الثاني عندما تحدّث في تشرين الأوّل– أكتوبر2004 عن “الهلال الشيعي” وذلك في حديث إلى صحيفة “واشنطن بوست”.
قامت الدنيا وقتذاك ولم تقعد على العاهل الأردني الذي قصد في الواقع الهلال الفارسي، بمعناه السياسي والعسكري وليس الديني والمذهبي، الذي تحاول إيران تكريسه مستفيدة من سقوط النظام العراقي في العام 2003 واندفاع ميليشياتها للسيطرة على السلطة في بغداد في ظلّ تواطؤ أميركي مكشوف مع النظام الإيراني. هذا النظام الذي خرج رابحا وحيدا من سقوط العراق بفضل الدبابة الأميركية. كان لا بدّ من انتظار أيلول– سبتمبر من العام 2014 حتّى تقول إيران بالفم الملآن إنها صارت تتحكّم بأربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت… وصنعاء. هذا معناه أنّها ذهبت إلى ما هو أبعد من الهلال الشيعي وبلغت اليمن في شبه الجزيرة العربية.
تظلّ هذه الحرب الإيرانية القائمة على فكرة الميليشيات المذهبية العراقية، واللبنانية، والسورية إلى حدّ ما، حربا بالوكالة بدأت تأخذ بعدها الحقيقي بعدما أخذ المشروع التوسعي لطهران مداه في ظلّ صعود “الحشد الشعبي” في العراق والتقدّم الذي حققه “حزب الله” في لبنان، خصوصا بعد الانتخابات النيابية الأخيرة في أيّار – مايو 2018، وهذه انتخابات أسفرت نتيجتها عن وجود أكثرية في مجلس النوّاب يحرّكها “حزب الله” الذي عرف كيف يسوّق قانونا انتخابيا يخدم أهدافه.
يبدو مسموحا لإيران التصرّف في العراق وسوريا ولبنان، بما يخدم مشروعها التوسّعي. لم تكن هناك في يوم من الأيّام أي اعتراضات أميركية وإسرائيلية حقيقية على وجودها في لبنان الذي فضّل الأميركيون الانسحاب منه بهدوء في العام 1983 بمجرّد تفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت.
ما الذي جعل أميركا وإسرائيل تستفيقان على الوجود الإيراني في العراق وسوريا ولبنان في ظلّ دور روسي عجيب غريب ليس معروفا هل يمكن أن يصبّ في نهاية المطاف في أيّ اتجاه إيجابي؟
هناك لعبة جديدة في منطقة دخلت حال الحرب. اسم هذه اللعبة الخطوة خطوة في التصعيد. خطت إيران خطوة في اتجاه لعب دور يفوق بكثير حجمها على الصعيد الإقليمي، أكان ذلك عبر صواريخها البعيدة المدى أو الطائرات المسيّرة. الأكيد أن هناك خطوطا تجاوزتها بالنسبة إلى أميركا وإسرائيل التي بدأت تعي معنى الوجود الإيراني في العراق وأبعاده وتحوّل العراق إلى قاعدة خلفية للوجود الإيراني في سوريا ولبنان أيضا.
هناك حرب قائمة في المنطقة. إيران تقاتل على طريقتها، كذلك إسرائيل وأميركا. ليس ما يشير إلى أن أميركا ستذهب إلى أبعد من دعم الضربات التي تشنها إسرائيل في العراق وسوريا ولبنان. هناك إدارة أميركية برئاسة دونالد ترامب لا تريد حربا وتؤمن بأن العقوبات المترافقة مع الضربات الإسرائيلية ستؤدي غرضها.
تكمن مشكلة إيران بكلّ بساطة أن حربها على شعوب العراق وسوريا ولبنان لا تهمّ أميركا وإسرائيل ما دامت هذه الحرب لا تشكلّ تهديدا لأمن الأخيرة. جديد الأسابيع القليلة الماضية أنّ المعادلة بدأت تتغيّر بعدما أخذ الأميركيون والإسرائيليون موضوع الصواريخ الدقيقة التي لدى إيران ولدى “حزب الله” مأخذ الجدّ في ظلّ وجود برنامج للطائرات المسيّرة لدى الطرفين اللذين هما عمليا طرف واحد.
ماذا سيفعل لبنان في ظل هذه المعادلة المعقّدة، خصوصا أن الوضع فيه ليس ميؤوسا منه كلّيا كما الحال في سوريا والعراق؟ الثابت أنّ عليه أن يأخذ على محمل الجدّ مسألة العقوبات الأميركية على مصرف لبناني هو “بنك جمال تراست”. لن تؤثر العقوبات على المصارف اللبنانية ولا على النظام المصرفي اللبناني، أقلّه في المدى القريب، لكنّها تبقى جرس إنذار لا بدّ من التنبّه له.
يبدو المعنى العميق لما حصل أنّ على لبنان أخذ التحذيرات الأميركية بمنتهى الجدّية. إذا كانت إسرائيل أرسلت قبل أسبوع طائرتين من دون طيّار في اتجاه الضاحية الجنوبية، فإنّ الإدارة الأميركية سارعت إلى كشف أنّ العقوبات على إيران و”حزب الله” ليست مزحة وأنّ كلّ استخفاف بما تقوم به ليس في مصلحة لبنان.
هل يعي المسؤولون اللبنانيون أنّ هناك حربا دائرة في المنطقة وأنّ ليس أمامهم سوى ممارسة الحذر. هل في استطاعة لبنان في السنة 2019 ممارسة الحكمة وأن يتذكّر أنّه استطاع بفضل الحكمة والابتعاد عن المزايدات الرخيصة الحفاظ على نفسه وسلامة أراضيه في خضمّ حرب حزيران – يونيو 1967… هل فات أوان الحكمة والتعقل؟