ارتدت الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن لأوكرانيا طابع المنعطف المهمّ في ما يتعلّق بالحرب الدائرة في هذا البلد الذي يواجه غزواً روسيا.
أثبتت الزيارة التي تخللها تصريح لبلينكن، قال فيه «إننا سننتصر جنبا إلى جنب (مع أوكرانيا)» أن لا خيار آخر امام الولايات المتحدة، وإدارة جو بايدن بالذات، سوى الذهاب إلى النهاية بغض النظر عن الثمن المترتب في دعم أوكرانيا بغية تأمين انتصار لها على روسيا.
يعود غياب أي خيار آخر لدى واشنطن إلى سببين. الأوّل أنّ انتصار روسيا في أوكرانيا يعني سقوط أوروبا في يد فلاديمير بوتين. اليوم أوكرانيا وغدا أي دولة أخرى على حدود أوكرانيا، بما في ذلك بولندا.
تحوّل الانتصار على روسيا في أوكرانيا هدفا بحدّ ذاته. لا تستطيع أي إدارة اميركيّة القبول بالعودة إلى ما قبل سقوط جدار برلين في خريف العام 1989 وتحرّر دول البلطيق ودول ما كان يسمّى أوروبا الشرقيّة، الواحدة تلو الأخرى، من نير الاستعمار السوفياتي.
هناك صفحة من تاريخ أوروبا طويت مع انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر العام 1991. ليس مسموحاً لبوتين بإعادة فتح هذه الصفحة. لم يهزم الغرب الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة كي يعود بوتين وينتصر على هذا الغرب بمجرد إقدامه على خطوة غزو أوكرانيا.
أمّا السبب الآخر الذي يجعل الإدارة الحالية في واشنطن مصرّة على هزيمة روسيا في أوكرانيا، فيتمثل في الأوضاع الداخليّة الأميركية. بعد سنة وشهرين تقريبا، في نوفمبر 2024، ستكون هناك انتخابات رئاسيّة أميركيّة.
ليس أمام جو بايدن الذي يعاني من مشاكل عدّة، بما في ذلك تقدّمه في السنّ، سوى تحقيق انتصار حاسم في أوكرانيا حتّى يتمكن من القول إنّ لدى ادارته سياسة خارجيّة ناجحة. لا بديل من انتصار لأوكرانيا على روسيا في حال كان الرئيس الأميركي الحالي يريد المحافظة على فرصة الحصول على ولاية ثانية... بدل الذهاب ضحيّة الفشل في إظهار أميركا قوّة عالميّة قادرة على الوقوف مع حلفائها الأوروبيين أوّلا.
لم يكتف بلينكن بزيارة كييف، بل تحدث عن مزيد من المساعدات الأميركية العسكريّة والإنسانيّة.
أكثر من ذلك، تفقد مواقع عسكريّة على الجبهة مع روسيا في وقت تحقّق القوات الأوكرانيّة بعض الاختراقات. الأكيد أن الهجوم المضاد، الذي يستهدف إخراج القوات الروسية من كلّ الأراضي الأوكرانية المحتلة حديثا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم المحتلة في 2014، يواجه صعوبات.
لكنّ الأكيد أيضاً أنّ هذا الهجوم لا يمكن أن ينتهي بتكريس أمر واقع يسعى بوتين إلى فرضه في أوكرانيا اليوم وفي هذه الدولة الأوروبية أو تلك غدا، خصوصا في جمهوريات البلطيق. كانت هذه الجمهوريات (لاتفيا واستونيا وليتوانيا) أوّل الدول التي خرجت من الاتحاد السوفياتي في أغسطس من العام 1991، قبل أشهر من الإعلان رسمياً عن انهياره أواخر ذلك العام.
في النهاية، يفترض في العالم، انطلاقا من زيارة بلينكن لكييف، أخذ العلم بأنّ لا تراجع اميركيّا في أوكرانيا، خصوصا أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي يظهر كلّ يوم أنّه يتمتع بصفات قيادية من جهة ويتابع كلّ شاردة وواردة ويعرف مكامن الضعف في أوكرانيا.
كذلك يعرف زيلينسكي مكامن القوة في بلده من جهة أخرى. في عزّ الهجوم المضاد الذي يشنه الجيش الأوكراني، لم يتردّد في استبدال وزير الدفاع بعدما اكتشف أنّه مرتبط بطريقة أو بأخرى بالفساد.
تعثر وزير الدفاع أوليكسي ريزنيكوف أمام فخ أوكراني قديم متجذر في البلد... هذا الفخ هو الفساد.
رأى زيلينسكي أن «الوزارة (وزارة الدفاع) بحاجة إلى أساليب جديدة للتفاعل مع الجيش، كذلك مع المجتمع المدني بالمعنى الواسع». قبل إقالته وزير الدفاع، أعلن الرئيس الأوكراني، عبر حسابه على «تلغرام»، أن الرجل تجاوز «أكثر من 550 يوما من الحرب».
يصعب التكهن بالمدة الباقية لانتهاء الحرب الأوكرانية. يبدو أن هذه الحرب التي بدأت في 24 فبراير 2022 ستكون حربا طويلة، لكن من بين الأمور التي لا شكّ فيها أنّ الإدارة الأميركيّة تعرف جيدا وبدقة بالغة كلّ ما يدور في روسيا.
يعود الفضل في ذلك، إلى أنّ وليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركية (سي آي إي) يمتلك خبرة طويلة في الشأن الروسي وفي شخصية بوتين نفسه. سبق لبيرنز، وهو ديبلوماسي محترف، أن عمل سفيرا في موسكو. حددت «سي. آي. إي» اليوم سيدخل فيه الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية.
كشفت لاحقاً حصول روسيا على مسيرات ايرانيّة كي تتابع الحرب. تكشف الآن نية الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون زيارة روسيا. تشير، فوق ذلك، إلى مفاوضات تجريها روسيا مع كيم للحصول على أسلحة وذخائر.
كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» أن كيم سيسافر من بيونغ يانغ، على الأرجح بقطار مصفح، إلى فلاديفوستوك على ساحل المحيط الهادئ في روسيا، ليجتمع هناك مع بوتين. سيكون الاجتماع مع الرئيس الروسي أول قمة لكيم مع زعيم أجنبي منذ أن أغلقت كوريا الشمالية حدودها في يناير 2020.
فيما تسعى روسيا لشراء الذخيرة من كوريا الشمالية لإعادة ملء مخازنها التي استنزفتها حربها في أوكرانيا، ترغب كوريا الشمالية في الحصول على شحنات من المواد الغذائية والوقود وعلى تقنيات الأسلحة المتطورة.
نجح بوتين إلى تحويل روسيا إلى دولة بائسة مضطرة، في نهاية المطاف، إلى الاستعانة بدولة يائسة يعاني شعبها من الجوع مثل كوريا الشمالية. لماذا تفوت الولايات المتحدة فرصة من نوع الانتصار على تحالف البؤس مع اليأس؟ نعم هناك انتهازية أميركية في حرب لا خيار آخر أمام الولايات المتحدة غير خوضها!