تتعرّض بيروت منذ سنوات عدّة، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه قبل أحد عشر عاما وثلاثة أشهر تقريبا، لحملة مركّزة تستهدف ترييفها وإلغاء دورها. مناسبة هذا الكلام الانتخابات البلدية في لبنان بعد أيّام قليلة والجهد المبذول لإعادة الاعتبار إلى بيروت انطلاقا من مجلسها البلدي الجديد.
ليس سرّا من اغتال رفيق الحريري وليس سرّا أن الحقد عليه هو في الوقت ذاته حقد، ليس بعده حقد، على بيروت وعلى لبنان وعلى كلّ ما له علاقة بالمدينة التي كانت في يوم من الأيّام مدينة لكلّ العرب. فمن بيروت انطلق مشروع يستهدف إعادة الحياة إلى الوطن الصغير وإعادة وضعه على خارطة المنطقة. ومن بيروت بدأ مشروع الإنماء والإعمار الذي كان مفترضا أن ينتشر في كلّ لبنان ويعمّ كلّ قرية ومدينة.
من بيروت أيضا، ومنذ اليوم الذي اغتيل فيه رفيق الحريري، في الرابع عشر من فبراير 2005، بدأت عملية مدروسة بدقة من أجل محاصرة المدينة وتغيير طبيعتها وعزلها عن محيطها العربي وعن الدور الذي طالما لعبته كجسر بين المنطقة والعالم. مطلوب أن لا تعود حاجة إلى بيروت لا أكثر، وأن يغادر كلّ من يمتلك كفاءة معيّنة المدينة بحثا عن لقمة العيش خارج لبنان.
ليس صدفة أن تكون حرب صيف العام 2006، وهي حرب مفتعلة من ألفها إلى يائها انتهت باعتصام في وسط بيروت من أجل شلّ المدينة. كان مطلوبا الانتصار على بيروت وليس على إسرائيل، وضرب الحياة الاقتصادية في البلد انطلاقا من وسط العاصمة. لم يدرك معظم المسيحيين للأسف مدى الضرر الذي لحق بهم جرّاء إغلاق هذا العدد الكبير من المؤسسات في الوسط التجاري. كذلك ليس صدفة أن بيروت تعرّضت إلى غزوة السابع من مايو 2008 التي استهدفت تأكيد أن العاصمة اللبنانية مدينة إيرانية على البحر المتوسّط لا أكثر.
لا يحدث شيء بالصدفة في بيروت وصولا إلى الوضع الذي تعيشه المدينة الآن التي صار مطارها في حال مزرية. لا يشبه المطار سوى مطار في دولة من دول العالم الثالث. لم يعد مطار رفيق الحريري سوى رمز للسقوط اللبناني ولتحول البلد إلى تابع للخارج لا أكثر. من يتمعّن في منظر الركاب في مطار العاصمة يكتشف إلى أيّ حد تراجعت بيروت، في وقت تشهد فيه كل مطارات المنطقة حركة كبيرة وازدهارا يصبّ في مصلحة الحركة الاقتصادية وخلق فرص عمل.
في الواقع، بدأت عملية اغتيال بيروت منذ ما قبل اغتيال رفيق الحريري. بدأت خلال حرب السنتين، في 1975 و1976 عندما باشرت فصائل فلسطينية، محسوبة على النظام السوري، تدمير الفنادق بطريقة منهجية. تولّت “الجبهة الشعبية – القيادة العامة”، وهي منظمة فلسطينية تابعة للأجهزة السورية هذه المهمّة.
بعد خروج المسلحين الفلسطينيين، الذين عاثوا فسادا في لبنان بحجة تحرير فلسطين، من لبنان في العام 1982، زادت الضغوط الهادفة إلى تهجير المسيحيين من بيروت الغربية. كان الهدف الإيراني إقامة جزر أمنية في الأحياء السنّية – المسيحية، من المزرعة، إلى المصيطبة، إلى كورنيش المزرعة، إلى راس بيروت وكليمنصو والقنطاري وزقاق البلاط والبسطة والخندق الغميق وصولا إلى عين المريسه. كانت نقطة التحول ما حصل يوم السادس من فبراير 1984، عندما أخرج الجيش اللبناني من بيروت الغربية لتصبح تحت رحمة ميليشيات مذهبية. راحت هذه الميليشيات تتقاتل في ما بينها من أجل التمهيد لعودة الجيش التابع للنظام السوري إلى بيروت!
لم تتوقف عملية القضاء على بيروت يوما. دخلت هذه العملية في أيّامنا هذه مرحلة جديدة. لم يعد ما يدعو إلى تدمير الفنادق والمطاعم والمؤسسات التجارية التي ازدهرت في اليوم الذي أعاد فيه رفيق الحريري الحياة إلى بيروت. عثر الساعون إلى تدمير العاصمة على وسيلة ناجعة لتحقيق الهدف نفسه. هذا ما يفسّر إلى حدّ كبير ذلك الإصرار على منع العرب من المجيء إلى لبنان. فجأة لم يعد العربي، خصوصا الخليجي، مرغوبا به في بيروت. تولّت حكومة “حزب الله” التي كانت برئاسة نجيب ميقاتي هذه المهمّة ونجحت فيها نجاحا عظيما.
ما العمل الآن في وجه الحملة الجديدة على بيروت؟ لا شكّ أن ليس في الإمكان تجاهل أن المشكلة الأكبر التي يعاني منها لبنان، وليس بيروت وحدها، هي سلاح “حزب الله” الذي يستخدم في كلّ ما له علاقة من قريب أو بعيد بتدمير المجتمع اللبناني والاقتصاد والمؤسسات التربوية العريقة. هل من يتذكّر ما تعرّضت له الجامعة الأميركية في الماضي وما تتعرّض له الجامعة اللبنانية الآن؟
هناك تدمير لمؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى، وهناك تدمير للاقتصاد ولقطاع الخدمات وسعي إلى النيل من كلّ ما يمكّن اللبناني من البقاء في لبنان. هناك فوق ذلك كلّه إصرار على إخراج لبنان من المجموعة العربية وإلحاقه بالمحور المذهبي الممتد من طهران إلى بيروت، مرورا ببغداد ودمشق.
باختصار شديد، ليس في الإمكان في الظروف الراهنة الدخول في مواجهة مباشرة مع ميليشيا مذهبية لا يهمّها سوى تهجير أكبر عدد ممكن من اللبنانيين من بلدهم من جهة، وتحويل لبنان، كلّه وليس بيروت وحدها، مستعمرة إيرانية من جهة أخرى. لا يعني تفادي مثل هذه المواجهة السكوت عن “حزب الله” وسلاحه والدور الذي يلعبه في الخارج، خصوصا في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.
لعلّ أفضل ردّ على الهجمة المستمرّة على بيروت هو بإعادة الاعتبار للعاصمة. هذا ما يفعله الرئيس سعد الحريري. يكون ذلك عبر مجلس بلدي جديد يعرف ماذا يعني الرصيف، ويعرف ماذا يعني احترام النظام والقانون، ويعرف ماذا تعني المحافظة على ما بقي من بيروت. بلغت الاعتداءات على بيروت حدّا لا يطاق… وصولا إلى إلغاء الرصيف في المدينة. باتت شوارع بيروت مستباحة لا أرصفة فيها، بل سيارات تستطيع الوقوف حيث تشاء.
تبقى بيروت هاجس نوّاب بيروت على رأسهم سعد الحريري الذي يعرف معنى حماية العاصمة وتطويرها في ظلّ المناصفة الإسلامية – المسيحية. فليس كثيرا أن تدافع بيروت عن نفسها، بدءا بإعادة الاعتبار إلى الرصيف في مواجهة الفوضى التي تستهدفها. لن يتحقّق ذلك في حال غاب عن البال في أيّ لحظة أنّ علّة العلل هي سلاح “حزب الله” الذي لا وظيفة لبنانية له سوى استكمال ما بني على اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، وما سبق ذلك من عمليات تطهير ذات طابع طائفي لأحياء معيّنة في العاصمة كي يسود فيها البؤس واليأس ولا شيء آخر غير ذلك. منذ متى يبني البؤس واليأس أوطانا ودولا؟