من المفيد انعقاد اجتماع ذي طابع سياسي واقتصادي في قصر بعبدا، مقرّ رئاسة الجمهورية في لبنان. ما يمكن أن يكون مفيدا أكثر هو امتلاك ما يكفي من الجرأة وتسمية الأشياء باسمها، بدل الهرب من الواقع الأليم الذي يمرّ فيه البلد. هذا الواقع الذي جعل المواطن اللبناني يشعر باليأس إلى أبعد حدود بعدما تبيّن أنّ لا وجود لرؤية سياسية تشكل قاسما بين كبار المسؤولين وزعماء الأحزاب التي تمتلك وزنا شعبيا.
ما هو أهمّ من ذلك كلّه أنّ هناك تعاميا عن الواقع المتمثل في الأسباب الحقيقية التي جعلت الوضع اللبناني يتدهور إلى هذا الحدّ، وصولا إلى فرض عقوبات على “جمّال تراست بنك” الذي هو في نهاية الأمر مصرف لبناني فيه ودائع لمواطنين لبنانيين وربّما أيضا لغير لبنانيين.
من السهل قول كلّ الكلام عن تاريخ لبنان الحديث، في ذكرى إعلان دولة لبنان الكبير قبل 99 عاما، بما في ذلك التهجّم على الدولة العثمانية التي لها ما لها وعليها ما عليها، والتي لا يزال الموقف منها موضع نقاشات. هناك نقاشات ما زالت دائرة إلى اليوم بين المختصين في التاريخ. محور هذه النقاشات إيجابيات العهد العثماني وسلبياته. لكنّ ما لا يختلف عليه اثنان أن المدينة في العهد العثماني كانت بالفعل مدينة مزدهرة في ظلّ عيش مشترك وأجواء تسامح بين مختلف الأديان. هكذا كانت بغداد والبصرة والموصل. وهكذا كانت دمشق وحلب وبيروت وطرابلس وصيدا. وهكذا كانت القاهرة والإسكندرية…
لكنّ الصعب يبقى الاعتراف بالواقع بدل الهرب منه والتلطي بشعارات يُفترض في لبنان أن يكون تجاوزها منذ فترة طويلة، خصوصا أنّه يعاني منذ نصف قرن من السلاح غير الشرعي الذي كان في البداية فلسطينيا، وصار مع الوقت ميليشيويا، وصولا إلى مرحلة السلاح الإيراني الذي جاء به الاحتلال السوري خدمة لأهداف مرتبطة بطبيعة النظام الأقلّوي في دمشق.
كان في استطاعة الذين التقوا في قصر بعبدا الاستعانة بأحداث يوم الأحد الماضي ليتأكّدوا من أنّ المشكلة الحقيقية في لبنان اسمها سلاح “حزب الله”. ردّ الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، عبر جنوب لبنان على ضربة عسكرية إسرائيلية استهدفت عناصر له يعملون انطلاقا من سوريا. بغض النظر عن الحسابات الإسرائيلية المرتبطة إلى حدّ كبير بالانتخابات، التي ستجري في السابع عشر من أيلول – سبتمبر الجاري والتي ستحدد مستقبل بينيامين نتانياهو، تبيّن أن لبنان الرسمي غائب عمّا يدور على أرضه. فالجانب الآخر الذي لديه حساباته هو إيران التي أرادت إثبات أن جنوب لبنان ورقة من أوراقها تستطيع استخدامها ساعة تشاء وكيفما تشاء.
هل يستطيع اجتماع مثل ذلك الذي انعقد في بعبدا الإعلان بالفم الملآن أن للبنان حساباته أيضا، وهي حسابات غير إسرائيلية وغير إيرانية، وأنّه معني بالمحافظة على القرار الرقم 1701 الذي صدر عن مجلس الأمن في آب – أغسطس 2006 وأوقف “الأعمال العدائية” بين إسرائيل و”حزب الله”؟
ذلك يبدو التحدي الأكبر أمام مثل هذا النوع من الاجتماعات التي مطلوب منها، قبل أي شيء آخر، رفض تغطية أيّ خرق للقرار 1701، على الرغم من الممارسات الإسرائيلية. هناك بُعد نظر لا مفرّ من التحلي به في حال كان مطلوبا حماية لبنان وليس السقوط في الفخ الإيراني. لعلّ الرئيس سعد الحريري كان أفضل من عبّر عن بعد النظر هذا في أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن حيث استمع إلى التحذيرات الأميركية من الأخطار التي تواجه لبنان، ودعا في الوقت ذاته إلى تطوير القرار 1701. دعا صراحة إلى الانتقال من “وقف الأعمال العدائية” إلى “وقف لإطلاق النار” كي ينعم لبنان عموما، وأهل الجنوب خصوصا، بالاستقرار بدل أن يكون البلد كلّه مجرّد ورقة إيرانية…
لا حاجة إلى اجتماع من أي نوع في بعبدا، وغير بعبدا، في غياب الكلام الذي يُفترض أن يقال لـ”حزب الله” عن الدور السلبي الذي يلعبه على كلّ صعيد، بما في ذلك على صعيد تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان، وهو مجتمع كان بين أكثر المجتمعات انفتاحا على كلّ ما هو عصري وتقدّمي في المنطقة وفي البلد منذ فترة طويلة. إضافة إلى ذلك، إنّه مجتمع مرتبط بمصالح أبنائه المنتشرين في كلّ أنحاء العالم، بما في ذلك إفريقيا. ما الذي يستفيد منه “حزب الله” عندما يضع كلّ رجل أعمال شيعي في موقع لا يحسد عليه، أكان رجل الأعمال هذا في لبنان أو خارجه؟
ليس الكلام الكبير عن “المقاومة” سوى كلام فارغ يقصد منه إلغاء مؤسسات الدولة اللبنانية لا أكثر. لا يمكن أن تقوم قيامة لبلد أو لاقتصاده عندما يكون هذا البلد رهينة لدى ميليشيا مذهبية مسلّحة تعمل في خدمة قوّة خارجية اسمها إيران لديها مشاكل كبيرة مع العالم، خصوصا مع الولايات المتحدة.
في غياب الموقف الرسمي اللبناني الصريح من “حزب الله”، وثمة من يقول إن ليس في استطاعة لبنان الرسمي الدخول في أي نوع من الحوارات الصريحة مع “حزب الله”، لن تقدّم اجتماعات تعقد في بعبدا أو غير بعبدا أو تؤخّر في شيء. على العكس من ذلك، ستكشف مثل هذه الاجتماعات إلى أي مدى تدهورت أوضاع الدولة اللبنانية التي عليها أن تتفرّج على “حزب الله” يخرق القرار 1701 الذي يشكل في الوقت الحاضر، وإلى إشعار آخر، الحماية الوحيدة للبنان.
لن يجدي تشكيل أي هيئة طوارئ اقتصادية، وما شابه ذلك، في غياب القدرة على القول إن كفى تعني كفى وأن لا وجود لتوازن عسكري مع إسرائيل، ولا وجود لقوة ردع اسمها “حزب الله” وصواريخ “حزب الله”. لم ترد إسرائيل هذه المرّة لأسباب خاصة بها. ما الذي يمكن أن يحصل غدا في حال وجدت الدولة العبرية أن من مصلحتها الردّ، وأنّه آن أوان طرح موضوع الصواريخ الدقيقة التي يقول “حزب الله” إنّه يمتلكها؟
إنّ إطلاق “حزب الله” صواريخ موجهة في اتجاه مدرعتين إسرائيليتين في أفيميم قرب الحدود اللبنانية يعني أوّل ما يعني الإساءة إلى لبنان الذي يشكو من الخرق الإسرائيلي للقرار 1701. فضّلت إسرائيل التظاهر بأن ما حدث كان مجرّد حادث عابر مع ما يعنيه ذلك من إضعاف لموقف الحكومة اللبنانية في تعاطيها مع المجتمع الدولي… هذا المجتمع الذي بدأ يطرح جدّيا أسئلة من نوع هل لبنان دولة بكلّ معنى الكلمة تمارس سيادتها على كل متر مربّع من أرضها أم لا؟ أين موقع لبنان في ظلّ الحسابات الإيرانية والحسابات الإسرائيلية؟