لا يمكن اعتبار توقف تلفزيون “المستقبل” في لبنان، في انتظار عودته وإن بشكل متواضع في يوم من الأيام، مجرّد حدث عابر. لا يتعلّق الأمر بمحطة فضائية توقّفت. هناك ما هو أبعد من ذلك بكثير. فما يشير إليه توقف هذه الفضائية بعد أشهر قليلة على توقف صدور جريدة “المستقبل”، يعني بين ما يعنيه سقوط لبنان الذي سعى رفيق الحريري إلى استعادته بكل الوسائل المتاحة بدءا بإعادة الحياة إلى وسط بيروت.
لا بدّ من ذرف دمعة على تلفزيون “المستقبل”… أو على لبنان. يكفي أن “المستقبل” كان الفضائية الوحيدة التي يعمل فيها السنّي والشيعي والدرزي وكل أبناء الطوائف المسيحية. لم يكن المسيحي الموجود في “المستقبل” كناية عن زينة فقط، بل كان موجودا بقوّة، كذلك الشيعي والدرزي في بلد تحوّلت فيه الفضائيات إلى مزارع لدى هذه الطائفة أو تلك… أو أدوات ابتزاز يحميها “حزب الله” بطريقة أو بأخرى وقبله نظام الوصاية السوري، غير المأسوف عليه أو على مخلفاته بمختلف أشكالها.
في بعض معاني العمالة والقسوة عند اللبنانيين
عثمانيون وفينيقيون: تأسيس الأوطان وتفكيكها
جسّد تلفزيون “المستقبل” لبنان كما كان يراه رفيق الحريري ولا يزال يراه سعد الحريري. جسّد عمليا لبنان الحلم، لبنان ثقافة الحياة المهدّدة من ثقافة الموت التي تسعى إلى زجّ البلد في حروب إقليمية لا أفق لها باستثناء تحقيق انتصارات للغرائز المذهبية التي تخدم المشروع الإسرائيلي أو ما يعرف تحديدا بحلف الأقليات.
بقي تلفزيون “المستقبل”، على الرغم من أنّ في الإمكان توجيه انتقادات كثيرة إليه في مجالات معيّنة، بمثابة تلفزيون الفرح في لبنان. كان يوفّر الأمل لشعب يسعى إلى الانتصار على ثقافة الموت.
بات مشروعا التساؤل هل انتهى لبنان الفرح في السنة 2019؟ الجواب أن الخوف كلّ الخوف في أن يكون موسم الفرح انتهى فعلا. لم يعد من وجود في لبنان لأغان كثيرة كانت تجسّد الأمل في انبعاث البلد في أحلك الظروف. لم يعد هناك من يرقص على أغنية “راجع يتعمّر… راجع لبنان”. لم يعد هناك مكان يصدح فيه صوت وديع الصافي وهو يردّد “عمّر يا معلّم العمار”.
لم يعد هناك من يريد أن يعمّر ولم يعد هناك من سياج. قتلوا من كان يبني. لم يعد هناك من يؤمن بأن لبنان سيعود إلى ما كان عليه في الماضي، في مرحلة ما قبل 1975 أو مرحلة مشروع الإنماء والإعمار الذي أطلقه رفيق الحريري في اليوم الذي أصبح فيه رئيسا لمجلس الوزراء في العام 1992. هل انطفأت أنوار لبنان في اليوم الذي استطاع فيه المحور الإيراني – السوري التخلّص من رفيق الحريري؟
امتلك كلّ من يعمل في تلفزيون “المستقبل” حدّا أدنى من التمسّك بعودة لبنان يوما. كان يكفي التعرّف إلى العاملين في تلك المؤسسة للتأكّد من وجود لبنانيين ينتمون إلى عالم آخر اسمه عالم لبنان. آمن هؤلاء بالفعل بمستقبل أفضل للبنان. انتمى العاملون في “المستقبل” إلى فئة خاصة من اللبنانيين استطاعت تجاوز الانتماء الطائفي والمذهبي. لم يكن هناك فارق بين المسيحي والمسلم. كان هؤلاء بشرا ينتمون إلى نوع معيّن من اللبنانيين قرروا أن يكونوا فوق المذاهب والطوائف وليسو أسرى لزعماء هذه الطوائف والمذاهب.
صنع تلفزيون المستقبل نجوما. مقارنة مع أي تلفزيون آخر، كان هامش الحرّية والانفتاح واسعا جدا. كانت هناك بالطبع ممنوعات، لكنّ أهم تلك الممنوعات كانت تلك الخطوط الحمر التي تعني أوّل ما تعنيه رفض الدخول في لعبة المزايدات ذات الطابع المذهبي أو المزايدات والكلام البذيء البعيد كل البعد عن الأخلاق الحسنة والأدب واللياقة.
ليس صدفة أنّ الإنذار المباشر الأول الذي وجّهه النظام السوري إلى رفيق الحريري كان عبر تلفزيون “المستقبل”. حصل ذلك منتصف حزيران – يونيو 2003 عندما أطلق صاروخ وضع في سيّارة مسروقة في اتجاه البناء الذي كان فيه مقرّ التلفزيون في منطقة الروشة. فهم رفيق الحريري مغزى الرسالة ومدى كره النظام السوري له ولكل من آمن بلبنان وبثقافة الحياة. كان مطلوبا استسلام لبنان في ظلّ بقاء النظام السوري أسير عقدة عودة الحياة إلى بيروت.
لم يدرك هذا النظام الذي وضع نفسه في خدمة إيران والميليشيا المذهبية التابعة لها في لبنان أن لا مستقبل لدمشق من دون ازدهار بيروت وأن العكس صحيح. بكلام أوضح، لا يمكن لدمشق الازدهار على حساب بيروت. على العكس من ذلك إن بيروت المزدهرة المتصالحة مع نفسها ستساعد في عودة دمشق مدينة مليئة بالحياة والفرح.
كان تلفزيون “المستقبل” محطة مقاومة بالفعل. قاوم النظام السوري بطريقة مهذّبة وقاوم هذا النظام و”حزب الله” بشكل قوي وحاد بعد اغتيال رفيق الحريري. كان مطلوبا في كلّ وقت استسلام “المستقبل”. هذا ما يفسّر استهدافه لدى حصول غزوة بيروت في السابع من أيّار – مايو 2008. لم يكتف “حزب الله” وقتذاك بإرسال مقاتليه إلى مبنى جريدة “المستقبل”. تعمّد شن هجوم على مبنى تلفزيون “المستقبل” الذي انتقل إلى حيّ القنطاري في بيروت. كان هجوما مدروسا استهدف تعطيل “المستقبل” وذلك تتويجا لمسلسل الانقلابات الذي توّج باغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005.
لعب تلفزيون “المستقبل” دورا كبيرا في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، بدءا بتجييش الشارع وإقناع اللبنانيين برفض الاستسلام لحسن نصرالله الذي أطلق شعار “شكرا سوريا”. هل أراد الأمين العام لـ”حزب الله” شكر النظام السوري على تأمينه الغطاء المطلوب لتفجير موكب رفيق الحريري؟ أم أراد شكر بشّار الأسد على كلّ ما فعله مع رفيق الحريري وصولا إلى اضطراره إلى سحب جيشه من لبنان تاركا لـ”حزب الله” ملء الفراغ العسكري والأمني الناتج عن هذا الانسحاب؟
لبنان… التايتانيك الثانية؟
لكي لا يبكي المحررون
أيّا تكن طبيعة الأسئلة التي طرحت نفسها في تلك المرحلة، ما لا بدّ من ملاحظته هو أنّ الحملة على تلفزيون “المستقبل” لم تتوقف يوما. كلّما مرّ يوم، زاد حصار الإعلام في لبنان عموما. خير دليل على ذلك ما تعرّضت له وما زالت تتعرّض له صحيفة “نداء الوطن” ورئيس تحريرها الزميل بشارة شربل بسبب التجرّؤ على وصف الواقع اللبناني على حقيقته لا أكثر ولا أقلّ…
هل استسلم “المستقبل” أخيرا بعدما افتقد سعد الحريري القدرة على تمويل المحطة التلفزيونية؟ لا مفرّ من قول الحقيقة المرّة. صمد معظم العاملين في “المستقبل” طويلا. ضحّى هؤلاء بالكثير في مجتمع لم يعد فيه مكان لا تمييز فيه بين لبناني وآخر. ربّما ما انتهى كان حلما في منطقة يبدو لا مكان فيها سوى للمراهنين على الغرائز المذهبية وعلى حلف الأقليات بكل ما جلبه وسيجلبه من كوارث على لبنان واللبنانيين والمسيحيين من أبناء البلد خصوصا…