لماذا استهداف القاع، البلدة المسيحية في قضاء بعلبك الواقع بمحافظة بعلبك ـ الهرمل التي يسيطر عليها “حزب الله”؟
الجواب، أقلّه إلى الآن، أن الانتحاريين الثمانية الذين فجروا أنفسهم في البلدة يوم السابع والعشرين من حزيران- يونيو الجاري حققوا الهدف المطلوب. ويتمثّل هذا الهدف، الذي يقف خلفه من أرسلهم إلى البلدة، في جعل أهل القاع يحملون السلاح فيها بشكل علني بحجة حماية أنفسهم. لا يخدم هذا الهدف سوى حزب الله الذي يمارس الأمن الذاتي مدّعيا أن الدولة اللبنانية قاصرة، وأنّه الوحيد القادر على حماية البلد كلّه في انتظار بلوغ هذه الدولة سنّ الرشد.
من المفترض أن يعي المسيحيون في لبنان هذا الواقع الذي يسعى حزب الله إلى جرّهم إليه، هم الذين كانوا الضحية الأبرز للعبة السلاح التي أتقنها النظام السوري إتقانا جيدا. لقد أدخل هذا النظام المسيحيين في هذه اللعبة بعدما حوّلهم إلى ميليشيات كان يصلها السلاح من مصادر مختلفة، فيما كان يتولى بنفسه تسليح الفلسطينيين الموجودين في البلد أو تسهيل وصول شحنات السلاح إلى “الفدائيين”. هل يتعلّم المسيحيون في لبنان من تجارب الماضي القريب؟ هل يتعلّمون من أنّ لا شيء يحدث بالصدفة في لبنان، وأن المطلوب دفعهم إلى أن يكونوا رأس الحربة ضدّ وجود اللاجئين السوريين في لبنان، من زاوية عنصرية ليس إلّا؟
بعد 48 ساعة من الخطاب الذي ألقاه الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله في أربعينية أحد قادته العسكريين والأمنيين مصطفى بدرالدين، الذي قتل في سوريا والذي يقف على رأس قائمة “القديسين” المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، جاءت مجزرة القاع الجديدة. كانت القاع باستمرار علبة بريد استخدمها النظام السوري لتوجيه رسائل في مناسبات معيّنة. على سبيل المثال وليس الحصر، شنت مجموعة مسلّحة تابعة للنظام هجوما على القاع في الثامن والعشرين من حزيران- يونيو 1978، وقتلت نحو 28 من أهالي البلدة بحجة أنهم كتائبيون، وأنّ حزب الكتائب وراء اغتيال طوني سليمان فرنجية وأفراد عائلته في إهدن يوم الثالث عشر من الشهر نفسه. وقعت مجزرة القاع الأولى بعد 15 يوما من مجزرة إهدن. كان ما يريد النظام السوري تحقيقه واضحا وقتذاك؛ كان يريد تعميق الشرخ المسيحي- المسيحي بين آل فرنجية من جهة، والكتائب من جهة أخرى. ما هي الرسالة المطلوب توجيهها هذه الأيّام عبر القاع؟
بعد 38 عاما على مجزرة القاع الأولى، شهدت البلدة يوم السابع والعشرين من حزيران- يونيو 2016 مجزرة أخرى. ليس سرّا أن هؤلاء الانتحاريين ينتمون إلى تنظيمات متطرّفة تعمل في سوريا. بين هذه التنظيمات داعش المرتبط ارتباطا وثيقا بالنظام السوري. من يعرف كيف ولد تنظيم داعش لا يستغرب تلك العلاقة الحميمة القائمة بينه وبين النظام السوري الذي يستخدم هذا التنظيم ليقول للعالم إنّه يخوض حربا ضدّ الإرهاب، في حين أنّه يخوض حربا مع شعبه ليس إلّا. من يتذكّر مهزلة تدمر قبل أشهر قليلة وتبادل الأدوار بين النظام السوري وداعش؟
كان الاستنفار المسيحي المسلّح في القاع دليلا على أنّ هناك من لا يريد الاستفادة من التجارب التي مرّ فيها لبنان، بما في ذلك مجزرة القاع في العام 1978. لا يحمي اللبنانيين إلا الدولة اللبنانية، ولا فائدة من استعراضات مسلّحة تظهر فيها نساء يحملن رشاشات. نعم، هناك ظلم لحق بالقاع وأهلها الذين سقط بينهم خمسة شهداء. لكن السلاح كان يجب ألّا يظهر بالطريقة التي ظهر بها. كان أكثر من ضروري أن يظهر المسيحيون وعيا في هذه الظروف بالذات، وأن يستيقظوا جميعا على أنّ المشكلة الأساسية في البلد هي سلاح حزب الله غير الشرعي من جهة، وتورطه من جهة أخرى في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري، وهو تورط سيعود بالويلات على لبنان واللبنانيين.
كان هناك دائما هدف من وراء استهداف مسيحيي الأطراف في لبنان، خصوصا سكّان بلدات وقرى حدودية مثل القاع. كان الهدف معروفا وهو إقناع المسيحيين بالحماية السورية، أي بحلف الأقلّيات الذي نادى به، في كلّ وقت، النظام العلوي القائم منذ 1970.
أكثر من ذلك، كان مطلوبا جعل المسيحيين يحملون السلاح علنا بغية التغطية على الكلام الأخير بالغ الخطورة، الذي صدر عن الأمين العام للحزب حول مدى ارتباط الميليشيا المذهبية التي يقف على رأسها بإيران. لم يكن كلام حسن نصرالله جديدا للذين يعرفون أن حزب الله لم يكن يوما سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني. لكنّ العلاقة بين الجانبين لم تكن يوما واضحة مثل هذا الوضوح ومكشوفة بهذا الشكل الذي ينمّ عن وقاحة ليس بعدها وقاحة واحتقار ليس بعده احتقار للبنان واللبنانيين، خصوصا عندما قال الأمين العام “يا خيي، نحن (نعلن) على رأس السطح، موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران. تمام”.
بكلام أوضح، مطلوب شغل لبنان، ومسيحييه خصوصا، بمصير بلدة مثل القاع ترمز إلى الانتشار المسيحي على الخارطة اللبنانية والإيحاء بأن المسيحيين في خطر، وهم فعلا في خطر. السبب الحقيقي لهذا الخطر سلاح حزب الله الذي يمنع مجلس النوّاب من انتخاب رئيس للجمهورية أولا، ثم استثماره في الحرب السورية ثانيا. من يستثمر في مثل هذه الحرب ذات الطابع الطائفي والمذهبي ومن يمنع انتخاب رئيس مسيحي للجمهورية اللبنانية بقوّة سلاحه، لا يعرض المسيحيين وحدهم للخطر، بل يضع البلد كلّه على كفّ عفريت.
جاءت مجزرة القاع الجديدة بعد اختتام الرئيس سعد الحريري لجولته الشمالية التي وضعت كلّ شخص بالمنطقة في حجمه الحقيقي من جهة، ورسمت من جهة أخرى معالم الدور الذي يمكن أن يلعبه الشمال اللبناني خصوصا مدينة طرابلس ومنطقة عكّار في مجال إعادة إعمار سوريا بعد رحيل بشّار الأسد.
مرّة أخرى، لا شيء يحدث بالصدفة في لبنان؛ القاع مستهدفة بصفة كونها بلدة مسيحية، والهدف من استهدافها استنفار المسيحيين وجعلهم يحملون السلاح، تماما كما حصل بعد اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في شباط- فبراير 2005. وقتذاك، ظهر مسلّحون مسيحيون في البعض من شوارع بيروت خشية تسلل “الغرباء” إليها.
كان الهدف من التفجيرات التي استهدفت أحياء مسيحية في بيروت وخارجها، مباشرة بعد اغتيال رفيق الحريري تصوير الأمر وكأنّ هناك فتنة مسيحية- إسلامية في البلد، وأن المسيحيين في حاجة إلى حمل السلاح من أجل حماية أنفسهم في بيروت وخارج بيروت. إنّها فكرة الأمن الذاتي التي ينادي بها حزب الله، الذي تبيّن أن مجموعة من عناصره متّهمة بتنفيذ عملية اغتيال الحريري وسلسلة من عمليات الاغتيال الأخرى.
هل يقع المسيحيون في الفخّ الذي ينصبه لهم هذه المرّة النظام السوري وحزب الله في الوقت ذاته مستخدمين شعارات برّاقة من نوع أن “التكفيريين” يستهدفونهم؟
يكفي، تفاديا للوقوع في هذا الفخّ، ألّا يغيب عن البال أن حزب اللّه يمنع انتخاب رئيس للجمهورية أوّلا، وأن داعش والنظام السوري وكلّ الميليشيات التي تدعمه، بما في ذلك ميليشيا حزب الله، وجهان لعملة واحدة. هذه لعبة من الضروري أن يتفاداها مسيحيو لبنان، في حال كانوا يريدون إظهار أنّهم تعلّموا شيئا من لعبة السلاح والميليشيات الطائفية والمذهبية التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه!