توجّه أنصار النائب المسيحي ميشال عون إلى القصر الجمهوري في بعبدا أم لم يتوجّهوا. ليست تلك المسألة. المسألة مرتبطة بمستقبل الوجود المسيحي في لبنان الذي يُستخدم عون في عملية إنهائه. متى استعرضنا تاريخ ميشال عون مذ كان قائدا للجيش وصولا إلى ما هو عليه الآن، نكتشف أنّه لم يكن يوما سوى أداة تستخدم في عملية إنهاء الوجود المسيحي في لبنان وتسخيف المسيحيين. تكفي نوعية النوّاب والوزراء التابعين له ومستواهم الأخلاقي وسلوكهم الحقير للتأكد من ذلك.
دعا النائب المسيحي الذي يتزعم كتلة نيابية كبيرة، انتخب معظم أعضائها بفضل الأصوات الشيعية التي أمّنها لهم “حزب الله”، إلى تظاهرة على الطريق المؤدية إلى القصر الجمهوري.
جاءت الدعوة في الذكرى الخامسة والعشرين لإخراج القوات السورية لميشال عون من قصر بعبدا الذي كان موجودا فيه بصفة كونه رئيسا لحكومة مؤقتة مهمّتها محصورة بانتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس أمين الجميّل. انتهت ولاية أمين الجميّل في أيلول ـ سبتمبر 1988، فخرج من القصر الجمهوري، تماما مثلما خرج منه في أيار ـ مايو 2014 الرئيس ميشال سليمان الذي تبيّن أنّه شخص يحترم نفسه كما يحترم الدستور اللبناني.
بعد ربع قرن، على خروج ميشال عون من قصر بعبدا ولجوئه إلى السفارة الفرنسية، لم يتغيّر شيء في الرجل. يحاول مرّة أخرى الوصول إلى رئاسة الجمهورية عن طريق انقلاب ينفّذه.
يدفع اللبنانيون عموما والمسيحيون خصوصا ثمن هذا الانقلاب الذي لا يصبّ سوى في خدمة قوى خارجية لها مآرب في لبنان.
في العام 1990، كان النظام السوري المستفيد الأوّل من كلّ ما قام به عون الذي أراد البقاء في قصر بعبدا ومنع الرئيس المنتخب شرعيا، وكان رينيه معوّض، من الوصول إلى القصر. كلّ ما فعله عون أنّه سهّل على النظام السوري، الذي كان يعتبر رينيه معوّض شخصية سياسية مقبولة من المسيحيين والمسلمين وقادرة على اتّباع نهج مستقلّ يصب في مصلحة لبنان، اغتيال الرجل. كان قصر بعبدا المكان الوحيد الذي يستطيع رينيه معوّض الاحتماء فيه من بطش النظام السوري الذي كان يخطط لوضع اليد على لبنان، كل لبنان والانقلاب على اتفاق الطائف الذي كرّس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
أراد النظام السوري بكلّ بساطة التحوّل إلى مرجعية سياسية وأمنية للبنانيين جميعا. بدأ بالتخلّص من رينيه معوّض الذي كان ذنبه أنّه يمتلك رصيدا وطنيا وإقليميا ودوليا يسمح له بتنفيذ الطائف حسب المفهوم اللبناني وليس حسب مفهوم النظام السوري.
بعد اغتيال رينيه معوّض ثمّ دخول العسكر السوري قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية، بفضل بطولات ميشال عون، بدأت مرحلة الوصاية السورية التي سعى الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى مقاومتها عن طريق القوّة الناعمة والنفس الطويل، وهو ما كلّفه حياته.
خاض ميشال عون في أثناء وجوده في قصر بعبدا بين خريف 1988 وخريف 1990 كلّ الحروب التي كان مطلوبا منه خوضها. كان مطلوبا منه، سوريا، خوض حرب مع المسلمين، فخاض تلك الحرب. كان مطلوبا منه، سوريا أيضا، خوض حرب مع “القوّات اللبنانية”، فخاض تلك الحرب. وعندما احتاج إلى ذخيرة ووقود لمتابعة تلك الحرب المسيحية ـ المسيحية، أمّن له النظام السوري كلّ ما يحتاجه عبر عملائه المحليين، من إيلي حبيقة إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. كان مهمّا أن يقضي ميشال عون على المسيحيين وتهجير أكبر عدد منهم. أحسن ذلك، بل أجاد كل الإجادة في هذا المجال. ولما جاء وقت قطافه، في ظروف إقليمية مواتية، وفّرها غباء حليفه وقتذاك صدّام حسين، سقط ميشال عون ودخل جيش النظام السوري بعبدا وطرده من القصر الجمهوري.
في العام 2015، لم يتغيّر شيء. يؤدي ميشال عون الدور المطلوب منه ولكن لمصلحة إيران ممثّلة بأداتها اللبنانية المسمّاة “حزب الله”. يدعو ميشال عون أنصاره إلى التجمع على طريق قصر بعبدا الخالي من رئيس للجمهورية في حين مطلوب منه بكلّ بساطة النزول إلى مجلس النوّاب والمشاركة في تأمين النصاب المطلوب لانتخاب رئيس معقول مقبول من اللبنانيين جميعا يكون رمزا للاعتدال والقدرة على لعب الحكم بين الفئات المتناحرة والدفاع عن المصالح الحقيقية للبلد. في الواقع، يؤدّي ميشال عون الدور المطلوب منه.
كان سوريّا في 1990 وهو إيراني في 2015. كان النظام السوري يسعى قبل ربع قرن إلى التخلص من روح اتفاق الطائف وتحويل الاتفاق إلى وسيلة لفرض هيمنته على البلد. وجد ضالته في ميشال عون. الآن، نجد إيران تسعى إلى فرض وصايتها على لبنان والتخلص من اتفاق الطائف نفسه وليس من روحه الأصلية فقط. تريد إيران التخلّص من النظام اللبناني بدءا بمنع انتخاب رئيس للجمهورية. لم يعد ذلك سرّا، خصوصا أنّ المطلوب إيرانيا أن تجري انتخابات نيابية قبل انتخاب رئيس للجمهورية استنادا إلى قانون يعتمد النسبية.
الهدف النهائي واضح كلّ الوضوح. تريد إيران المثالثة بدل المناصفة. تريد موقعا ثابتا في النظام اللبناني يجعل من هذا النظام، عن طريق ما يسمّى الثالثة بين السنّة والشيعة والمسيحيين، رهينة لديها لا أكثر.
في النهاية، ليس الحقّ على ميشال عون الذي أنهك المسيحيين في لبنان وهجّر أكبر عدد منهم من البلد تحت شعار المطالبة بحقوقهم التي يختزلها بحقّه في أن يكون رئيسا للجمهورية بأيّ وسيلة كانت.
الحقّ، في الواقع، على كل مسيحي لا يمتلك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بالواقع الأليم المتمثّل بأن ميشال عون كان دائما في خدمة النظام السوري الأقلّوي
الذي لم يكن لديه يوما من همّ لبناني سوى شنّ حرب على المسيحيين وإضعاف السنّة بكلّ الوسائل المتاحة، من الاغتيال الجسدي، كما حصل مع المفتي حسن خالد والرئيس رفيق الحريري… إلى الاغتيال السياسي كما حصل مع تقيّ الدين الصلح وصائب سلام.
يحقّ لأيّ مواطن لبناني يجد مسيحيا على استعداد لتلبية نداءات ميشال عون، التساؤل، هل الأزمة أزمة خاصة بفئة من المسيحيين في لبنان أم إنّها صارت أزمة المسيحيين في لبنان في وقت يعاد فيه رسم خرائط الدول في المنطقة، بما في ذلك خريطة سوريا؟
بين ميشال عون، الأداة السورية في 1990 وميشال عون الأداة لدى الأدوات الإيرانية في 2015، لم يعد مستبعدا أن يتحوّل مسيحيو لبنان إلى عملة نادرة على أرضهم في نهاية المخاض الطويل، بل الطويل جدّا، الذي يمرّ فيه الشرق الأوسط.