قد يكون سابقاً لأوانه الإسراف في التكهُّن المستقبلي عن عالم ما بعد «كوفيد 19» أو «فيروس كورونا». مع ذلك، فبعض سلوكنا ومواقفنا اليوم قد يتدخل في رسم هذا المستقبل، قريباً كان أم بعيداً. من هذا السلوك ظهور إعجاب مستجد، وأحياناً من غير تحفظ، بالصين.
هنا، لا بد، بداية، من ملاحظتين للتوضيح:
الأولى، أن أحد أسوأ ما أشاعته الكارثة الأخيرة - الراهنة كان انفجار العنصرية حيال الصينيين (مآكلهم التي يأكلونها منذ آلاف السنين، تعبير «الفيروس الصيني»...)، وهو ما ردّت عليه الصين بلغة تآمرية ومضحكة (الجيش الأميركي هو السبب).
الثانية أن ما تقدمه الصين من أفكار وعلاجات هو (تعريفاً) جزء مما يحتاج إليه العالم، وجزء من إسهامه، والقدرات الهائلة لبلد كالصين تجعلها بالضرورة صاحبة أفكار وعلاجات (وأدوات وقائية) بالغة الأهمية وقد تحتاج إليها أي دولة.
لكن هذا الإعجاب بالطريقة الصينية، القائمة على السيطرة والضبط والتحكم، يبقى لافتاً. حتى بعض النيوليبراليين، لا الليبراليون فحسب، الذين يؤكدون حرصهم على الحرية والخيار الإنساني أولاً، شاركوا في محفل الإعجاب هذا. أعينُهم بدت شاخصة إلى شيئين: خفض عدد الإصابات، و«النجاح الاقتصادي» الذي يتوقعونه للصين بعد «كوفيد 19». الحرية والخيار، بالنسبة إلى هؤلاء، احتلا أسفل قائمة الأولويات.
استغراب هذا الإعجاب كان ليقل قليلاً لو أن المعجبين ربطوا ذلك بحالة الاستثناء الراهنة. لو أنهم مثلاً قالوا: في حالة الاستثناء، تجوز الإجراءات الاستثنائية. أما التعامل مع الاستثناء كقاعدة، بل كنموذج للتقليد، فهذا شيء آخر.
ومفهومٌ أن يصدر الافتتان بالصين عن بيئات توتاليتارية الهوى، تحب الحكم بالأوامر، والعيش في ظل استثناء دائم يغدو هو القاعدة، خصوصاً أن الوجه الآخر لهذا الموقف هو نقد الديمقراطيات الغربية التي «لا تعبأ إلا بالربح»، و«لا تعبأ بالإنسان». لكن هذا الموقف، حين يصدر عن بيئات غير توتاليتارية، يكون تعبيراً آخر عن الهلع: نريد الحل الآن. لقد ظهر في الصين فجيئونا به من الصين. هكذا تُبنى المواقف والآراء على ضوء ما ورد في آخر نشرة أخبار، أو آخر إحصائية حول الموضوع.
والهلع مُعدٍ، تعريفاً، لا سيما حين يستثير الخوفُ فينا تكوينَنا القطيعي، وكلما زاد الخوف والعجز عن التحكم بمصدر الخوف زاد تأثيره القطيعي علينا.
لكن الهلع أيضاً، وبطبيعته، يلازمه النسيان، بما فيه نسيان ما نعرفه جيداً: هل الآن الوقت الصالح لتذكر أن الصين محكومة بحزب واحد منذ 70 سنة، أو لتذكر «ساحة تيان أن مين»، أو أوضاع مسلمي الإيغور فيها، أو أهل التيبت، أو معاناة هونغ كونغ؟ ليس بين المعجبين بالنموذج الصيني من سيتذكر أو يترجم تلك التجارب المُرة إلى قتلى ووفيات.
والحال أن حكاماً كثيرين في عالمنا اليوم يستثمرون في هذا الهلع، أحدهم بنيامين نتنياهو (وهو نيوليبرالي اقتصادياً) يريد لمكافحة «كوفيد 19» أن تحذو حذو مكافحة الإرهاب، بما في ذلك التنصت على الهواتف الجوالة للمصابين.
ومما يُنسى أيضاً تحت وطأة الهلع أن الحلول التكنوقراطية والأداتية لا يُطمأن إليها حتى حين «تنجح».
إن الكلفة المستقبلية على حرياتنا وقدرتنا على التحكم بحياتنا ستكون، والحال هذه، كبيرة جداً.
ثم إن المصاب بالهلع يتثبت على نموذجه الخلاصي الأوحد. إنه لا يتحمل ترف المقارنة بتجارب أقل قسرية من دون أن تكون بالضرورة أقل نجاحاً، كما في كوريا الجنوبية أو سنغافورة أو تايوان أو هونغ كونغ. فكرة الفحوصات الطبية المعممة والجهاز الطبي المتماسك الذي يتكامل عمله مع سائر أنشطة الدولة والمجتمع تبدو كماليات يطردها الهلع المستعجل. وهذا كله يفترض بالتأكيد دوراً رعائياً للدولة ومستوى محتملاً من القسر.
كذلك فطالب الخلاص لا يسائل المخلّص؛ فأن يكون حكام الصين قد عرفوا بالأمر قبل أسابيع وتكتموا عليه، وبالتالي عززوا انتشاره، فهذا ليس وقته الآن. وحدهم الذين يتعاملون مع المسألة من دون هلع، أو الذين هم أقل هلعاً، هم الذين يضيفون كلما تحدثوا عن حكام الصين تعبير: «إذا صدقناهم».
أغلب الظن أن الجهد الذي قد ننفقه على المطالبة بعولمة أوسع نطاقاً، وأكثر عدلاً في توزيع المكاسب والرفاه، وأكثر توكيداً على عالمية الحاكمية والقوانين، سيكون أنبل من المطالبة بأنظمة قومية متشددة «تعمل لصالحنا» من وراء ظهورنا، أو من فوق رؤوسنا.
وأغلب الظن أيضاً أن هذه اللغة تبقى أكثر شبهاً بمن ينسبون أنفسهم إلى الديمقراطية والليبرالية، حتى لو أصابهم حالياً الافتتان بالصين. بيد أن ذلك يستدعي، أولاً بأول، أن نضع الهلع جانباً.