هذا زمن العجائب والتناقضات. خاضت بريطانيا حربين عالميتين من أجل إنقاذ أوروبا من ألمانيا. وها هي تنفصل عن أوروبا التي تقود ألمانيا وحدتها الاتحادية. ختمت «قبائل» أوروبا حروب الألفية الثانية باتحاد يتداول «يورو» بلا قلب. وبلا عاطفة. وبلا زعامة ملهمة كانت لدى شارلمان. وشارل ديغول. ووينستون تشرشل. ولم تتوفر لديفيد كاميرون.
أسكن أوروبا منذ أربعين سنة. أقف على ضفة السين. أتأمل النهر التائه والكسول كل يوم. فلا أدري إن كان آتًيا أم مغادًرا. في يوم أوروبي عاصف وممطر، ثار النهر مع شباب أوروبا الغاضبين على الدولة القومية. وظنت أحزاب الوسط التي تداولت حكم أوروبا منذ انهيار جدار برلين (1989) أن السدود التي أقامتها ستمنع شباب أوروبا من الفيضان.
هل يمزق شباب أوروبا الديمقراطية التي نسيت الآيديولوجيا؟! استعارت حكومات يمين الوسط وزراء من معارضة يسار الوسط. قرأ فرنسوا هولاند رأسمالية آدم سميث. فأثار عليه عمال فرنسا العاملين والمتعطلين المتمسكين بمكاسب العدالة الاجتماعية.
صدرت أوروبا «دواعشها» إلى عرب الانتفاضة. فتأسلمت الانتفاضات. سارت انتفاضة الشيعة إلى الأضرحة. وذبحت «الدواعش»، «الكفار» والمؤمنين. فوقعت الديمقراطية بين عصي متمردة: عصا الشباب الغاضبين على الاتحاد المكتبي في بروكسل. وعصا «داعش» التي تكفر المؤمنين، وتبيح دماءهم. وعصا دونالد ترامب الذي يريد تحويل البيت الأبيض إلى ناٍد تقامر فيه أميركا بالبيض. والسود. والملونين.
تذكرني إشكالية بريطانيا مع أوروبا، بوحدة مصر وسوريا (1958). اقترح جمال عبد الناصر اتحاًدا. فأصّر عسكر سوريا على وحدة فورية مع «البطل». رأيت السوريين البسطاء والفقراء يحملون سيارة عبد الناصر في شارع الأغنياء. لم تجندهم مخابرات. ولا حزب. ولا ميليشيا. ولا طائفة. ولا عشيرة. كانت الوحدة تجربة شعبية عاطفية. مجرد ارتباط مع من يتمتع بجاذبية جماهيرية.
عملت في الصحيفة التي أصدرها عبد الناصر في سوريا. بعد أسابيع قليلة، تملكني شعور بأن شيًئا ما ينقص الوحدة. كانت الحرية هي هذا «الشيء» الغائب. باتت الثرثرة الصحافية والسياسية مع أركان الدولة تدور بكلفة مصطنعة. فيها خوف. تردد. نفاق. أين سهرات السمر السياسية؟ أين صراحة الدعابة السورية اللاذعة؟ أين البرلمان؟ أين المناقشات الحامية التي دارت تحت قبته؟ آه! انتقل البرلمان إلى القاهرة، عاصمة الدولة. والوحدة.
هل أخطأ عبد الناصر؟ وهل أخطأ المصريون الذين انتدبوا للعمل في سوريا، مدنيين وعسكريين؟ أجيب ببساطة السوريين العاديين الذين سموا فوق أمزجتهم المحلية. والطائفية، ليتسامحوا مع بعض الأطر (الكوادر) المصرية التي كانت تقِّرعهم: «إحنا جايين برضه عشان ننظمكو». آه! كانت سوريا أكثر تنظيًما من مصر إدارة. وأعلى مستوى اجتماعًيا. وثقافًيا. واقتصادًيا. لم تعرف سوريا الفساد الواسع المروع، إلا مع نظام حافظ الأسد. كان السوريون العاديون يتسامحون. فقد أدركوا بوعيهم أن خلاص العرب وسوريا بوحدتهم. فهي طريقهم إلى القوة. والرخاء. والاستقرار.
كان على عبد الناصر أن ينظم دورات تدريبية لهؤلاء المدنيين والعسكريين، ليعرفوا ماذا يقولون. وكيف يتصرفون في سوريا. بدلا من ذلك، أُجبر على إرسال صديقه «اللدود» المشير عبد الحكيم عامر إلى سوريا. عرفت الرجل الثاني عن قرب. كان طيًبا. طموًحا. وأكثر بساطة من عبد الناصر الأكثر عملاً. وجدية. وثقافة. كان ناصر ضد شلة الضباط المحيطين بعامر صديق العمر والمصير. فقد أوقعوا عامر في عداء مع ناصر. ووكيله عبد الحميد السراج في سوريا.
ضباط دمشق الذين دبروا الانقلاب على المشير عامر، أدركوا هول التغرير بهم الذي مارسه أهلهم وآباؤهم من تجار دمشق المعادين للاشتراكية الناصرية. فذهبوا إلى عبد الناصر باكين. متوسلين إعادة الوحدة. لكنه كان قد قدم الاشتراكية الماركسية على الوحدة القومية، خشية من انقلاب مصري قد يقوده عامر. والبورجوازية الرأسمالية. وفلول الوفد والإخوان.
ظل فشل التجربة الوحدوية هاجًسا يؤلمني ويؤرقني طوال حياتي. نعم، كان عبد الناصر ديكتاتوًرا، بمقاييس الديمقراطية الغربية. لكنه كان أملاً قومًيا وحدوًيا، بمقاييس واعتبارات جيلي. قاوم الغرب وحدة أمة كبيرة تتحكم في مفاصل أهم البحار. والخلجان. والمحيطات. وتملك موارد طبيعية هائلة ساهم الغرب في استغلالها، بحيث لو تركها لأهلها، لتأثرت تنميته. وحضارته. ومستوى الرفاهية التي يعيشها.
بعد مآسي كل هذه السنين، أستطيع أن أقول إن عبد الناصر أخطأ مع النظام الخليجي. فقد تملكته آيديولوجيا التحرير. كان عصره عصر تحرر الشعوب. وليس عصر الحرية والديمقراطية. ها هي أوروبا تقيم اتحادها مع نظم رئاسية. وملكية. وكان الخليج أميًنا مع عبد الناصر، إلى درجة أن أميرين سعوديين نافذين (سيغدوان ملكين) تطوعا في التنظيم الفدائي المصري الذي قاوم الغزو الثلاثي في حرب السويس (1956).
هل شعرت بريطانيا بالفراغ الذي شعر به السوريون؟ ربما. كان الاتحاد الأوروبي تجربة وحدوية. مكتبية. معزولة في بروكسل، عن الشعوب الأوروبية. وكانت الوحدة المصرية/ السورية تجربة عاطفية غير قادرة على تحمل وطأة التنمية في البلدين. ولا تمتلك المؤسسات الحقيقية لوحدة ودولة قادرتين على العيش إذا ما غاب البطل.
هل أدرك الإنجليز سلًفا خطر الانفصال على الاستقرار. لعل المستقبل المجهول يحاسبهم على ما فعلوه بأنفسهم، تماًما كما عاقب الانفصال أهل دمشق وضباطها الذين طعنوا الوحدة القومية بالانقلاب. ها هي دمشق اليوم تعيش تحت وطأة نظام أكثر قسوة من النظام الناصري. وهم يعرفون أن الذي دمر حلب على رؤوس الملايين من أهلها، مستعد لتدمير دمشق، إذا ما تحركت ضده.
أسأل عن آباء شباب الشيعة اللبنانيين الذين كانوا يهرعون إلى دمشق، لاستقبال عبد الناصر كلما زار سوريا. فيرقصون ويهزجون مع الدبكة على وقع الدربكة. لعل الزمن كان رحيًما بهؤلاء الآباء. فغيبهم تحت التراب، لكي لا يشاهدوا أبناءهم وأحفادهم يذبحون أشقاءهم السوريين بخنجر حسن نصر الله، وخميني. وخامنئي. وروحاني. وسليماني.
كما تضررت أوروبا من انفصال بريطانيا، تضرر النظام العربي أيًضا من انفصال سوريا عن مصر. فشُل المشروع القومي الوحدوي أطلق العنان للمشاريع الطائفية. والمذهبية الأضيق. بل كادت مصر السادات تنفصل عن العرب، لولا حسني مبارك. نعم، حسني مبارك الذي أعادها إلى انتمائها القومي. وكان تسييس الإسلام بمثابة كارثة. فقد نشأت على يمين الإخوان المسلمين تنظيمات أشد تقشًفا. وتزمًتا. وجهلاً بالعصر.
فقتلت «الدواعش» و«جبهة القاعدة والنصرة» المؤمنين قبل «الكفار». وعرضتا سوريا والعراق بالمشاركة مع نظاميهما الطائفيين، إلى حروب التقسيم. والقتل. وتغييب الهوية والانتماء