بقلم -جهاد الخازن
عندما أكون في بيروت ألعب "الشدّة" مع بعض الأصدقاء بعد الظهر، وقد أشرب القهوة مع أصدقاء آخرين في أحد مقاهي شارع الحمراء قبل العشاء.
بيروت تشبه القاهرة في زحام السير، خصوصاً في وسط المدينة، وتتفوق على القاهرة بعدد الشحاذين والشحاذات. بعض الشحاذين يأخذ معه صغاراً من بنات وبنين يشحذون بدورهم من المارة أو ركاب السيارات.
شحاذتي المفضلة بين البيت ودار "الحياة" قرب البرلمان. أعطيها ألف ليرة، أو ثلثي دينار، مع أن أول عمل صحافي لي في بيروت كان في وكالة رويترز، وبدأت بألف ليرة في الشهر، أي بمرتب عالٍ، وانتهيت بحوالى ثلاثة آلاف ليرة.
كنت مترجماً سنة ومراسلاً سنة أخرى، وفي السنة الثالثة من العمل مع الوكالة البريطانية المشهورة أصبحت "رئيس نوبة" وهناك من يعمل معي. كان إلياس نعواس رئيس التحرير الإقليمي، وكان خضر رضا رئيس نوبة مثلي وقبلي، وانضم إلينا حنا عنبر الذي يعمل الآن مسؤولاً عن التحرير في "الديلي ستار" التي رأست تحريرها حتى بدء الحرب الأهلية في لبنان.
أكتب اليوم ذكريات ربما تجعل القارئ يبتسم في يوم العيد أو يشاركني ما عنده من ذكريات. كنت أتناول الغداء مع أخي الأصغر في مطعم في الأسواق الجديدة، وخرجت أربع سيدات كن على طاولة مجاورة ثم عادت واحدة من الخارج وسألتني: أنت جهاد الخازن؟ قلت لها نعم، واكتشفت أنها زوجة الزميل وفيق رمضان، وأن الأسرة عادت مع الابنة الوحيدة من الإقامة في واشنطن إلى لبنان. كم أسفت أنني لم أطلب من الأخت العزيزة رقم الهاتف المحمول لوفيق لأكلمه وأراه.
لم تمضِ دقيقة أو نصف دقيقة حتى عادت سيدة أخرى من الخارج مع زوجها وسألتني: أنت جهاد الخازن؟ قلت لها نعم وقال الزوج إنه ربح رهاناً مع زوجته فهو قال لها إنني جهاد الخازن وهي أنكرت ذلك. ماذا أقول؟ كبرنا يا سيدي القارئ.
في بيروت قبل الحرب الأهلية كنت مسؤولاً عن توفير مادة بالإنكليزية لنشرة أطلقها الزميل الكبير غسّان تويني، ترجمة اسمها إلى العربية هو "تقرير الشرق الأوسط". النشرة كانت تصدر من مكتب الزميل رياض الريّس، وكانت أفضل مادة أتلقاها من المساهمين يكتبها الزميل فؤاد مطر.
غسّان تويني كان من خيرة الناس، صحافياً وإنساناً، ومع أنني أقمت في لندن ٤٢ سنة حتى الآن، فقد كنت في بيروت عندما توفي، وحضرت تشييع جنازته في كنيسة تواجه البرلمان، ورأيت من أفراد أسرته زوجته شادية الخازن، وابنة ابنه جبران، الشابة نايلة تويني مع زملاء كثيرين.
قبل وفاة غسّان اتصلت بالأخت شادية وطلبت منها أن تتصل بي إذا كان في وضع طيب فقط لأسلم عليه. هي قالت لي إنه يجلس في طرف الصالون ويبكي، فقد توفيت زوجته الأولى ناديا تويني وابنته نايلة صغيرة، وابنه مكرم الذي قتلته سيارة مسرعة في باريس، ثم جبران في تفجير في بيروت ولم يبقَ سوى غسّان للبكاء على أسرته.
اليوم تمر بي السيارة أحياناً أمام مبنى الأونيون، أتذكر الزملاء ثم أتذكر اغتيال جون كنيدي والقنبلة النووية الصينية، وموت جمال عبدالناصر وتسلم أنور السادات الرئاسة بعده، والحروب مع اسرائيل وموت ياسر عرفات، فأنا والأخت سهى عرفات واثقان من أن الحكومة الإسرائيلية قتلته بسم في الطعام الذي يدخل المقاطعة في رام الله.
هناك أصدقاء كثيرون في بيروت بعضهم هرب من الضرائب في لندن، وهناك آخرون توفوا وبقيت ذكراهم في القلب. سنتبعهم يوماً.