فاتن

فاتن

فاتن

 السعودية اليوم -

فاتن

مأمون فندي

كانت بالضبط كاسمها لا زيادة ولا نقصان، ويمكن تلخيص حياتها بكلمة واحدة: فاتن. لم أعرف فاتن حمامة، ولا أهلها ولا أدعي قربا منها، كما أنني لا أدعي أنني ناقد فني، ولكن لكي تكتب عن فاتن حمامة، فأنت لا تكتب نقدا بقدر ما تكتب شيئا أقرب إلى العديد في جنازات أهل الصعيد في نوع من المندبة، أي أن تندب حقبة مرت كان الممثل أو المشخصاتي المصري متدربا ومتمكنا من أدواته كممثل، بمعنى أداء أدوار مختلفة ومتنوعة، بعيدة جدا عن شخصية الفنان وحياته. فقط قرأت وشاهدت مثل أي قارئ أو مشاهد تدرب على التذوق الفني، ولا أدعي معرفة بخصوصية حياة فاتن حمامة، فقط قابلت زوجها السابق عمر الشريف أكثر من مرة، وجاء اسمها في سياق فني لا شخصي، ولكن هذا أيضا لا يمنحني معرفة خاصة، فقط أود أن أكتب عن ممثلة مصرية، ربما كانت آخر من يمكن أن يطلق عليهم لقب ممثل بالمقاييس العالمية، متنوعة في قدرتها على تقمص الشخصية، فلا علاقة بين سماعها وهي تتحدث الفرنسية في مقابلاتها أو في واحد من أفلامها غير المعروفة، وبين أدوار بنت البلد، وهذا ما كان يميز جيلا كاملا من الممثلين المصريين الفرانكوفونيين مثل زينات صدقي وعبد الفتاح القصري ممن يظهرون في دور جزار أو بنت الحارة في الملاية اللف، رغم أن حياتهم بعيدة جدا عن السياق الذي يجدون أنفسهم فيه في الفيلم، وهذا ما يسمى تمثيلا أو تماثلا وتقمصا لشخصية في رواية، وهذا مختلف تماما عما نراه اليوم، حيث تجلس مع ممثل على العشاء ثم ترى فيلمه بعدها ولا تجد فارقا واحدا، هو ذات الشخص الذي يلعب دور نفسه أو تنويعه على دور نفسه، وبالتالي تنتفي فكرة المشخصاتي أو الممثل.

فارق كبير بين عالم عماد حمدي وعمر الشريف وفاتن حمامة وأحمد مظهر، وما يسمى تمثيلا اليوم في مصر، الذي يعتمد في الجانب الكوميدي منه على ما يسمى في الغرب «سلاب ستك» الذي ينقصه أي نوع من الإبداع.

رثاء فاتن حمامة ليس حزنا على غياب شخص، بل هو حزن على مرحلة، فالطبيعي هو أن المجتمعات تتطور فنيا وثقافيا، أي أن الممثلة الجديدة من المفروض أن تكون أفضل من فاتن حمامة، لأنها درست وشاهدت فاتن حمامة، أي أن المتوقع أن تضيف إليها لأنها ببساطة واقفة على أكتافها، لكن للأسف ما نراه في مصر هو تراجع وانحدار، فليس هناك يوسف وهبي أو عماد حمدي أو فؤاد المهندس أو عبد المنعم مدبولي، إلى آخر هؤلاء الممثلين الذين تعلموا التمثيل على أصوله.

السؤال هنا هو: هل حالة التراجع والانحطاط التي سادت وزارة المعارف أو التعليم ما بعد العهد الملكي، هي التي أوصلت مصر إلى الحالة الثقافية والفنية الحالية؟ أم أن نوستالجيا القديم وغرامنا به هو ما يجعلنا متسامحين في رؤية عيوبه، والتركيز على مميزاته وعلى نقاطه المضيئة؟

يعرض المصريون كل يوم على وسائل التواصل الاجتماعي صورا عن قاهرة الأربعينات والخمسينات، عن الشوارع النظيفة والمباني الراقية، يعرضون صور السيدات والرجال والعائلات في حفلات أم كلثوم القديمة، حيث تلبس سيدات القاهرة على الموضة الباريسية وكلها صور مبهجة.

وفي المقابل يعرضون صورا حديثة لسيدات ملفلفات في ملابس لا أحد يعرف هل تقليدية أم حديثة، ليست ملابس الفلاحة الأنيقة ذات المنديل «بأويه» على الرأس الذي يكشف قليلا ويستر كثيرا، ولكن به «ستايل» أو شياكة محلية، يعرضون أيضا صورا للدويقة والعشوائيات التي تحاصر المدن، ينشرون صورا عن شوارع غارقة في مياه الصرف. تناقض تام بين مصر وما كانت عليه ومصر الآن، مصر فاتن، أو مصر الفاتنة ومصر الجديدة التي ينقصها الكثير من حيث الحضارة، وأولى لبناتها: النظافة.

ولكن هل ما نعرفه الآن عن مصر وما نسميه بالتدني الحضاري المدني هو نتيجة عالم الكشف وسهولة الوصول إلى الصور والمعلومات أم أنه حقيقة؟ أي لو كان هناك ذات أدوات التواصل والتصوير في الأربعينات والخمسينات كان من الممكن أن ينكشف لنا الشارع الخلفي لمصر أيامها، أي ليست صورة الزمالك فقط بل صورة بولاق أيضا؟

ظني أن هذا غير صحيح؛ فصور بولاق زمان أكثر نظافة من كثير من المهندسين اليوم، كما أن أهم كتاب مصر العظام وفنانيها هم نتاج العصر الملكي ومدارسه، التي كانت تتبع معايير أوروبية في التعليم، وأنه متى ما تسلم أهل البلاد العملية التعليمية لم ينجحوا في الوصول إلى التميز، ليس في الفن فقط، وإنما في كل مناحي الحياة.

موت فاتن حمامة فيه رمزية موت حقبة مما يسميه المصريون بالزمن الجميل، فهل نحن قادرون اليوم على إنتاج جمال مشابه أو أفضل؟

إنتاج الجمال والفن يتطلب معرفة كاملة بالمعايير الصارمة التي تحكم الفنون والآداب التي يكون الإلمام بها أولا هو الأساس، والإضافة إليها لا تأتي إلا بعد هذا الإلمام ليصبح الخروج عن المقام هو الإبداع.

لا تستطيع الخروج على المقام في الموسيقى كما كان يفعل محمد عبد الوهاب، أو تطعم الموسيقى العربية لموسيقى أوروبا الشرقية إلا بعد إلمامك بالقواعد الكلاسيكية، لا تلعب في مقامات الموسيقى مثل مقام بياتي بتفريعاته، الذي تتحرك فيه أصوات رائعة كصوت وموسيقى فريد الأطرش ومعظم أغاني فيروز، إلا بعد دراسة للأصول، ولا خروج عن المقامات العربية الأصيلة، مثل السيكا والرست الذي لا يتبعه المطربون والملحنون، بل يتبعه من يجودون القرآن الكريم ويتلونه أيضا، إلا بعد التمكن منها أولا. ولكن لدينا للأسف من يخرجون دون أن يدخلوا، أي أن خروجهم على الكلاسيكي الموسيقي ليس إبداعا بعد إلمام ومعرفة، بل خروج الجهل، يخرجون لأنهم لا يعرفون، أو يخرجون وهم لم يدخلوا أصلا.

وما ينطبق على مثال الموسيقى هذا من عبد الوهاب حتى عبد الباسط عبد الصمد ينطبق على التمثيل. فلدينا ممثلون اليوم من مدرسة السبكي لا نعرف من أين أتى هؤلاء؟

وما ينسحب على الفن في مصر ينسحب على الثقافة بالمعنى الواسع، أي أن ما نراه في الفن من انحطاط ما هو إلا إشارة أو إحد تجليات حالة الانحطاط الحضاري العامة، مصر اليوم ولكي تتذكر فاتن حمامة، عليها أن تعود إلى زمن فاتن.

زمن تسود فيه معايير صارمة في الفن والثقافة والتعليم والنظافة والنظام.

رحم الله فاتن وزمن فاتن.

arabstoday

GMT 15:09 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

ابنه البكر

GMT 15:08 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

... إنّها حرب تطالبنا بأن ننسى كلّ شيء تقريباً

GMT 15:07 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

المشعوذون القدامى... والجُدد

GMT 15:04 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

الدول العربية «المضروبة»

GMT 15:03 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

حانت لحظة الرحيل

GMT 15:02 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

الأسئلة الصعبة

GMT 15:01 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

من غزو العراق... إلى حرب غزّة

GMT 15:00 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

عن رسالة بوريل ومستقبل أوروبا

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فاتن فاتن



إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 16:48 2024 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

اكتشاف بروتين يحفز إنتاج الدهون الجيدة والتخلص من السمنة

GMT 10:54 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 09:30 2016 الأربعاء ,11 أيار / مايو

لازم يكون عندنا أمل

GMT 05:34 2020 الثلاثاء ,28 إبريل / نيسان

"قبعات التباعد" سمحت بعودة الدراسة في الصين

GMT 11:29 2020 الخميس ,05 آذار/ مارس

أعمال من مجموعة «نجد» تعرض في دبي 9 الجاري

GMT 14:43 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح من أجل محاربة الأرق عن طريق الوجبات الخفيفة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab