بقلم - مأمون فندي
دور الدولة في قيادة التحول الاجتماعي والتنمية محل جدل في العلوم السياسية، خصوصاً في المجتمعات التي يكون فيها المجتمع المدني هشاً. في هذا المقال لا أتحدث عن دور الدولة كفاعل منفرد في معادلة الدولة والمجتمع، وإنما دورها في الانحياز للتيارات التنويرية وأجندات اقتصادية وسياسية تجعل من بلداننا جزءاً من العالم الحديث. بعد مرور عقد من الزمان على ثورات «الربيع العربي» بات لزاماً علينا أن نتأمل دور الدولة والمجتمع في قيادة التغيير، ومهم أن ننظر حولنا لدور الدولة في بلدان أخرى، خصوصاً في شرق آسيا، ومثالي اليابان وكوريا الجنوبية، اللتين قادت فيهما الدولة التنموية (developmental state) مشروع التحول الاجتماعي والاقتصادي.
لعقود طويلة كانت المنطقة العربية تشتكي من مرض مزمن هو التطرف وتوابعه من عنف وإرهاب، ولكننا اليوم أمام حالة جديرة بالدراسة والتأمل والمقارنات تقول لنا بوضوح إن انحياز الدولة الواضح للتنوير وانحيازها الواضح الذي لا مواربة فيه ضد التخلف والتيارات الظلامية هو الذي يقلب كفة ميزان التغيير، هذا التغيير طبعاً يجب أن يترافق مع تأهيل المتطرفين وإقصاء خطاب التطرف والتجهيل. لكن تأهيل المتطرفين وإبعاد الخطاب المتطرف فقط لا يعول عليهما إذا كانت الدولة رخوة وانحيازاتها رخوة، وتمسك العصا من المنتصف. المثال الواضح والناصع لانحياز الدولة ضد التخلف والتطرف هو ما قامت به السعودية في عهد الملك سلمان. دولة ذات رسالة وسياسات واضحة مفادها لا مكان للتطرف والغلو ولا التخلف zero tolerance، ورأينا خلال الخمس سنوات الفائتة نهاية التيارات التي تشد المملكة إلى الوراء.
لقد نجحت المملكة بامتياز، رغم ما تعرضت له من اتهامات، في ردم مستنقع التطرف، ونقلت المجتمع السعودي من حال إلى حال في فترة وجيزة. أعلم أن خمس سنوات ليست بالزمن الكافي للحكم على أي تجربة، وأعلم أيضاً أنَّ إدارة التحول ربما أهم من التحول ذاته.
ما أودُّ قوله هو أنَّ تجربة التحول الاجتماعي في السعودية اليوم جديرة بالتأمل الجاد، وجديرة بالدراسة لما لها من دلالات تخص بقية دول الإقليم ودول العالم الإسلامي وجرها إلى الأمام باتجاه العالم الحديث.
ليست الفكرة هنا هي كيل المديح، ما يرمي إليه هذا المقال هو دور الدولة في قيادة التغيير، أي دولة في أن تكون هي قاطرة التغيير الاجتماعي، خصوصاً في مجتمعات تكون فيها مؤسسات المجتمع المدني ضعيفة. وكما أشرت في بداية المقال لدينا نموذجان في شرق آسيا، هما اليابان وكوريا الجنوبية، حيث قادت دولة التنمية التغيير. دولة التنمية هي مصطلح في العلوم السياسية نظر له عالم السياسة الأميركي تشارمل جونسون (1931 - 2010)، في كتابه «من يحكم اليابان: ظهور الدولة التنموية» (1994)، وفرق فيه بين الدولة الضعيفة والدولة المتوحشة والدولة التنموية. وتلك مفاهيم فنية تخص طلاب علم السياسة والاقتصاد السياسي لا مجال للتوسع فيها هنا. المهم هنا باختصار أنَّ الدولة التنموية بالنسبة لجونسون هي الدولة القاطرة التي تجرُّ المجتمع نحو الحداثة والصناعة من خلال تدخل سياسي مباشر. السعودية ليست اليابان أو كوريا الجنوبية، لكن مقارنة دور الدولة في التغيير بين هذه الحالات كاشفة لنوعية التغيير.
دور الدولة وانحيازها للتغيير الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط في رأيي هو دور محوري. وعندما أقول دور الدولة فليس في هذا إلغاء للمجتمع ودوره، كما سيتضح لاحقاً، لكنني أعني انحياز الدولة لتيارات تأخذ الدولة والمجتمع معاً إلى الأمام، وتجعل مجتمعاتنا أقرب إلى المجتمعات الحديثة منها لمجتمعات الإقطاع ومجتمعات العصور الوسطى. وسأضرب مثلاً بمصر مبارك كي تتضح النقطة.
عانت مصر، على سبيل المثال، في تسعينات القرن الماضي من جراء معركة طاحنة بين النظام وبين قوى التطرف والتخلف، وتكبَّدت فيها الدولة خسائر عظيمة، ورغم هذا الصراع العنيف فشلت دولة مبارك أيامها في الانحياز الكامل للتنوير، ومسكت العصا من المنتصف، في إطار أصبحت فيه الدولة ذاتها تزايد على الإسلاميين في مظاهر التدين، وكنت ترى زبيبة الصلاة على جبهة ضابط أمن الدولة وعلى الموظفين في دوائر الدولة أنفسهم، لم يكن هناك انحياز للدولة المدنية الحديثة، بل كانت مباراة بين الدولة والجماعات في مظاهر التدين. الدولة مسكت العصا من المنتصف، وبالتالي خسرت الدولة والمجتمع أمام تيار التخلف.
ولم يكن الأمر يخصُّ دولة مبارك وحده، بل يمكن أن نقول إنَّه كان يخصُّ ما قبله أيضاً.
وهنا أضرب مثلاً بسيطاً يوضح النقطة. فرغم المبادئ الستة التي كانت في ظاهرها انحيازاً للمجتمع، إلا أنَّها كانت انحيازات رخوة لم تدم. إذ كان في مصر في بداية ثورة يوليو (تموز) تياران سأرمز إليهما هنا بشخصين وكتابين. التيار التنويري الذي مثله عميد الأدب العربي ووزير المعارف الدكتور طه حسين وكتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي دعا المصريين لأن يعلموا أبناءهم وبناتهم كما يعلم الأوروبيون أبناءهم وبناتهم، وقال قولته الشهيرة «لا يستقيم للعقل أن ننشد الحرية ونسير إليها سير العبيد».
أما التيار الثاني فكان تيار جماعة «الإخوان المسلمين»، الذي كان ينتمي إليه عدد لا بأس به من رجال ثورة يوليو، بمن فيهم جمال عبد الناصر نفسه، وكان رمز «الإخوان» الفكري هو سيد قطب، وأما الكتاب فهو كتابه «معالم في الطريق»، الذي خرجت من بين صفحاته كل حركات التطرف المصرية.
ورغم أنَّ عبد الناصر أعدم سيد قطب، إلا أنَّ الدولة المصرية انحازت لكتابات سيد قطب على حساب كتابات طه حسين، فاز كتاب «معالم في الطريق» على كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»، وما كانت تسعينات القرن الماضي إلا نتيجة لهذا الانحياز الواضح لتيار التخلف. طه حسين كُفّر وانزوت كتاباته على الأرفف، وبقيت كتب سيد قطب.
ومن نافلة القول أن نذكر أنَّه في عهد مبارك تمَّ التفريق بين الكاتب التنويري نصر حامد أبوزيد وزوجته، وهاجر بعدها إلى هولندا ومات في منفاه، وذلك لأن الدولة انحازت إلى تيار التخلف.
الدرس المستفاد من تجربة السعودية وتحولاتها خلال خمس سنوات هو أن الدولة هي القاطرة الأساسية لتقدم المجتمعات في منطقتنا، وأن انحيازاتها هي التي تصنع الفارق.
تجربة السعودية وتدخل الدولة بقوة خلال السنوات الخمس الأولى من حكم الملك سلمان وإدارة ومتابعة صارمة من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تستحق الدراسة، للتعرف على العوامل الأخرى المساعدة لنقل المجتمع السعودي نصف قرن من الزمان خلال خمس سنوات، من دون أن يصاب النظام بأي هزات ارتدادية، كما يحدث في حالات الزلازل؛ التغيير الذي حدث كان زلزالاً اجتماعياً بالفعل.
هل مرَّت هذه التغييرات رغم أهميتها وقوتها في السعودية بنجاح حتى الآن، لأنَّ القيادة ممثلة في الملك وولي العهد؟ وهل هذا راجع إلى أن التغيير الاجتماعي في الأنظمة الملكية أيسر منه في الجمهوريات؟
هذه أسئلة ضرورية الهدف منها فتح حوار داخل مجتمع العلوم السياسية وطلاب علم السياسة والاجتماع لعقد مقارنات قد تأتي بإجابات مخالفة أو داعمة لما أطرحه هنا.
الحالة السعودية قد تمنحنا طريقاً جديداً للتحول الاجتماعي في الشرق الأوسط الكبير، يختلف عن دور دولة التنمية في كوريا الجنوبية واليابان، تحولاً قد يأخذنا إلى عالم الحداثة بتكلفة أقل من تكلفة الثورات التي تسرقها قوى التخلف أحياناً، وما حالتا إيران 1979 ومصر 2011 إلا مجرد مثالين لدولتين كبيرتين انحرف فيهما المسار، نتيجة لغياب دور الدولة التنموية أو لغياب مجتمع مدني قوي، أو كليهما معاً.
نجاح التجربة السعودية في التغيير يحتاج دعماً دولياً لما لتلك الدولة المحورية من تأثير على بقية دول العالم الإسلامي. التجربة السعودية حتى الآن أثبتت أن التطرف كان نمراً من ورق، كل ما يحتاجه هو قيادة جادة تنحاز للتقدم بصلابة ليختفي هذا التيار، ليس كله، ولكن أكثر من ثمانين في المائة منه، في وقت قصير. إذا نجحت هذه التجربة في مجتمع محافظ كالمملكة، فلماذا لا ينجح النموذج ذاته في باكستان وفي مصر وغيرهما. فإذا كان الأمر كذلك فعلى القوى الداعمة للإصلاح والاستقرار في العالم الإسلامي أن تمنح كل الدعم لإنجاح هذا النموذج. وعلى نخب الغرب أن تنظر إلى الصورة الكبرى لما يحدث في المملكة وتبعاتها على إنجاح أجندة الإصلاح في العالم الإسلامي، وهي الجائزة الكبرى، بدلاً من التدقيق في تفاصيل لم تكن أبداً أساسية في مسار بناء الدول وتاريخها.