عبد الباري عطوان
جميع الأطراف الأجنبيّة المُتورّطة في “الصراع على ليبيا” وليس “الصراع في ليبيا”، تعيش هذه الأيّام حالةَ انتظار قلقة، ولكنّها مُستمرّة في التعبئة والتحشيد العسكريّ استعدادًا لمعركة سرت الحاسمة “المُؤجّلة” في الوقتِ نفسه.
أربعة تطوّرات رئيسيّة على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة طرأت على المشهدين السّياسيّ والعسكريّ في ليبيا في الأيّام القليلة الماضية، يُمكِن من خِلال التوقّف عندها استِقراء بعض المُستجدّات في هذا الصّراع، وتحسّس آفاق المُستقبل:
الأوّل: شنّ طائرات حربيّة يُقال حسب تسريبات صحافيّة أنّها من نوع “رافال” الفرنسيّة الصنع على قاعدة الوطية (عقبة بن نافع) جنوب غرب طرابلس وتدمير منظومات دفاعيّة تركيّة فيها، وتزامنَت هذه الغارات الأُولى من نوعها مع زيارةِ خلّوصي آكار وزير الدفاع التركي إلى العاصمة الليبيّة طرابلس ومصراته على رأسِ وفدٍ كبيرٍ من الجِنرالات وقادة الجُيوش، وسط تكهّنات تقول بأنّ الزّيارة ربّما تأتي للتّنسيق مع حُكومة الوفاق لتحديد “ساعة الصّفر” لهُجوم سرت.
الثّاني: التصريحات التي أدلى بها السيّد مصطفى صنع الله رئيس المؤسّسة الوطنيّة للنفط لقناة “ليبيا الأحرار” وقال فيها إنّ قوّات “مجهولة” دخَلَت إلى ميناء سدرة النفطي، وبعد أيّام من احتِلال قوّات تابعة لشركة “فاغنر” الروسيّة المجندة للمُرتزقة حقل الشّرارة النفطي في الجنوب قُرب الحُدود الجزائريّة.
الثّالث: الحديث الفريد من نوعه الذي أدلى به السيّد عبد المجيد تبون رئيس الجزائر لمحطّة “فرانس 24” وحذّر فيه أنّ الأُمور في ليبيا تزداد خُطورةً، وقد تَنزلِق الى ما هو أبعد من النّموذج السوري وبالتّحديد إلى النّموذج الصومالي، أي الفوضى المُطلَقة، إذا لم يتم التوصّل إلى اتّفاقٍ لوقف إطلاق النّار، مُلمِّحًا إلى “الخِيار الثّالث”، أي القبائل الليبيّة وانتِقالها إلى مصلحة التّسليح للدّفاع عن النّفس، والسّيطرة على زِمام الأُمور.
الرابع: تأييد الدكتور أحمد داوود أوغلو للتدخّل التركي العسكري في ليبيا، وتوجيهه انتِقادات شَرِسَة للرئيسين المِصري عبد الفتاح السيسي، والفرنسي إيمانويل ماكرون، في انحيازٍ كامِلٍ لخصمه رجب طيّب أردوغان الذي انشقّ عنه وأسّس حِزبًا مُنافسًا يُدعى “المُستقبل”، وأوغلو هو مهندس “العُثمانيّة الجديدة”، ومِن أبرز الدّاعمين للإسلام السياسي وحركة الإخوان المُسلمين بالذّات.
***
قصف قاعدة “الوطية” هو التطوّر الأخطر عسكريًّا لأنّه قد يعني عدم امتِلاك القوّات التركيّة المُسيطِرة عليها أجهزة رصد دقيقة ومُتقدّمة أوّلًا، واستِخدام الطائرات الحديثة جدًّا والمُتطوّرة في هذا الهُجوم المُفاجئ وهُناك “تسريبات” تقول إنّها من نوعِ “رافال” الأحدث في التّرسانة العسكريّة الفرنسيّة، ولا تملك هذا النّوع مِن الطائرات حسب أقوال الخُبراء إلا دولتين، هُما الدولة المُصنِّعة، أي فرنسا، ومِصر، وإذا صحّت هذه التّسريبات الصحافيّة، فأي منهما الدولة التي أرسلت هذه الطائرات لقصف القاعدة التي استولت عليها قوّات “الوفاق” بدَعمٍ من تركيا يوم 18 أيّار (مايو) الماضي، هل هي مِصر أم فرنسا؟ نقول هذا في وقتٍ أشارت تقارير وتسريبات أخرى عن احتمال كونها روسيّة من نوع “سو 24” انطلقت من قاعدة “الجفرة” القريبة، ولكنّ خُبراء اتّصلت بهم “رأي اليوم” رجّحوا الرّواية الأولى، أي طائرة “رافال” الفرنسيّة.
أمّا إذا انتقلنا إلى الجديد على الساحة السياسية فإنّ تصريحات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون هي الأكثر أهميّةً، ليس بسبب الجانب الذي حذّر فيه من “صَومَلَة” الأزمة الليبيّة فقط، وإنّما بحديثه أيضًا بكُل صراحة ووضوح عن القبائل الليبيّة التي امتدَح “حكمتها” على عكس “المُرتزقة” الآخرون على الساحة الليبيّة على حدّ وصفه الذين ارتكبوا انتهاكات فظيعة، وانخِراط هذه القبائل في التّسليح استِعدادًا للدّفاع عن نفسها بعد أن “طَفَحَ الكيْل”.
كلام الرئيس تبون يستمد أهميّة من حيث اختيار محطّة تلفزة فرنسيّة لإعلانه أوّلًا، ورغم أنّ الرئيس تبون قال إنّ بلاده تقف على مسافةٍ واحدةٍ من جميع أطراف الأزمة الليبيّة، إلا أنّ رؤية بلاده للحَل تتوافق مع فرنسا وإيطاليا (ليس تركيا)، مع تأكيده على ضرورة إعطاء دور للشعب الليبي، والقبائل على وجه التّحديد، وتنظيم انتِخابات تَضُم كُل مُكوّنات الشعب الليبي.
نعود ونقول إنّ هذا الحديث غير المسبوق للرئيس الجزائري يأتي بعد زيارة السيّد عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي (طبرق) للجزائر، ومنها مُباشرةً إلى موسكو، وبعد زيارة الرئيس التونسي الحليف الأوثق للسيّد تبون لفرنسا، وإعلانه عن ضرورة تشكيل “مجلس قبلي” على طريق نظيره الأفغاني، يُصدر إعلانًا دُستوريًّا مُؤقّتًا، وينتخب رئيسًا، وتشكيكه، أي الرئيس التونسي، في شرعيّة المجلس السيادي الرئاسي المُؤقّت الحالي الذي يتزعّمه الرئيس فايز السراج ويحظى بدعم تركيا وقطر، وقوله بأنّ شرعيّة هذا المجلس انتهَت بعد 18 شهرًا مِن تشكيله، وعدم التِزامه بالبند الأهَم مِن اتّفاق الصّخيرات، أي إجراء انتخابات في البِلاد.
***
الحرب في ليبيا ونقولها للمرّة الألف ليسَت مِن أجل مصلحة الشعب الليبي الضحيّة الأكبر، وإنّما حرب مصالح للسّيطرة على ثروات الغاز والنفط، فالرئيس أردوغان يسيل لُعابه على احتِياطات الغاز في السّواحل الليبيّة، وعُقود البُنى التحتيّة، والفَرنسي ماكرون يُدافع عن مصالح شركة “توتال” النفطيّة، أمّا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيضع مصالح شركة “غاز بروم” الروسيّة النفطيّة والغازيّة، فوقَ كُلِّ اعتِبار.
الغارات الجويّة على المنظومات الدفاعيّة التركيّة في قاعدة “الوطية” وتدميرها يُمَثِّل “إعلان حرب” وخطوة مدروسة لجرّ تركيا إلى حربِ استِنزاف في دولةٍ تَبعُد عن شواطئها ألفيّ كيلومتر، أمّا “اقتِحام” قوّات روسيّة لميناء السدرة أكبر مَوانِئ التصدير الليبيّة والسيطرة عليه فهذه ضربة “استباقيّة” لإفشال أي مُحاولة لقوّات الوفاق المدعومة بمُقاتلين أتراك ومُتشدِّدين إسلاميين للسّيطرة على الهِلال النفطي الليبي في برقة.
في ظِل غِياب الحل السلميّ ومُفاوضاته، وتَصاعُد عمليّات التحشيد العسكريّ من قِبَل جميع الأطراف، يُمكِن القول إنّ معركة سرت الكُبرى والحاسمة تقترب.. وأكثر مِن أيّ وقتٍ مضَى.. واللُه أعلم.