ونحن على منصة التكريم فى مهرجان القاهرة السينمائى قبل أقل من 18 شهرا قال لى مداعبا أول مرة أعرف أنى فنان مربع، كنت قد أصدرت عنه كتاب (المشخصاتى) ووصفته بأنه يبدع فى المجالات الأربعة سينما مسرح تليفزيون إذاعة.
آخر لقاء جماهيرى عاشه حسن حسنى عندما وقف على خشبة المسرح أثناء تكريمه بالمهرجان وجدت كل الحاضرين فى دار الأوبرا بلا اتفاق يقفون أكثر من خمس دقائق وقلوبهم قبل أياديهم تصفق، اللقاء الثانى بعد 48 ساعة فقط بالمسرح المكشوف وامتدت الندوة كاملة العدد التى كان مقدرا لها ساعة لتصبح ساعتين، أحالهما حسن حسنى إلى حالة من الضحك والبهجة، ذاكرته دائما حاضرة بالكلمة الموحية والقفشة الحراقة والنكتة اللاذعة التى لا تتجاوز أبدا حدود اللياقة.
أتذكر عندما ذهبت لمنزله فى مدينة 6 أكتوبر لإجراء حوار نتوقف فيه معا عند بعض لمحات من المشوار، هيأت نفسى لكى أنعش ذاكرته ببعض المواقف، وكنت شاهدا عليها، فاكتشفت أن ذاكرة الأستاذ لم تغادرها حتى أدق التفاصيل.
وكما فاجأت الأستاذ حسن بالتكريم، فاجأنى هو بتلك اللمحة، وجدت فى غرفة مكتبه مقالا قديما لى عمره أكثر من خمسة عشر عاما، أحاطه ببرواز ذهبى، لم أتخيل وأنا أكتب المقال أنه يستحق كل هذه الحفاوة، من فنان تصدر بغزارته الرقمية وقدراته الإبداعية المشهد الفنى، صار واحدا بين عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، قدموا كل هذا الكم من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، بالتأكيد حال عدد من هذه الأفلام مثل حال السينما المصرية (حبة فوق وحبة تحت)، وإن شئت الدقة (حبتين أو ثلاثة تحت)، إلا أن الثابت هو أن لدينا نقطة ارتكاز عميقة اسمها حسن حسنى، فهو يشكل دائما عامل جذب مهما كان مستوى العمل الفنى، وكأنه البنية التحتية الراسخة للشريط السينمائى.
نعم يتباين مستوى الأعمال، ومن الممكن أن تجده يتنقل بين أكثر من شخصية فى نفس الوقت، لكنه أبدا لا يكرر الأداء، كان يصطحب معه أحيانا من خلال مساعده (دولاب متحرك) يسير على عجل يضع فيه ربما ملابس خمس شخصيات مختلفة، ورغم ذلك كان عليه أن يعايش كل شخصية وأن يُمسك تفاصيلها الخاصة، وألا تترك واحدة بصماتها على الأخرى، وتلك قدرة استثنائية أنعم الله بها على حسن حسنى، أن يتحرر من شخصية وجدانيا لينتقل بسلاسة لأخرى ثم الثالثة والرابعة، تلك هى المرونة عندما تتجلى فى أروع صورها.
دائما كنا نردد مع مطلع الألفية الثالثة، شاهدنا فى العيد ستة أفلام بينها سبعة يشارك فى بطولتها حسن حسنى، تبدل طبعا الحال فى آخر عامين بعد أن تضاءل العدد، ولكن لا يزال حسن فى البؤرة!! نجمنا الكبير هو تميمة النجاح، حتى أصبح تواجده بغزارة فى الأفلام قاعدة متعارفا عليها، لم يستطع أحد تنميطه فى قالب محدد، رغم أن السينما المصرية بطبعها وعلى سبيل الاستسهال تُشجع الجميع على التنميط.
حسن حسنى يقف دائما على الشاطئ الآخر من هذا المنهج، هو لا يذهب للشخصية الدرامية بمفاتيحه، ولكنه يُطلق للشخصية الدرامية العنان لتفرض هى مفاتيحها عليه، وهذا هو معنى الإبداع فى فن (التشخيص)، تستطيع أن تقول إن ملامح حسن حسنى عندما تجاوز الخمسين من عمره، حركت وميض الإبداع بداخله، الحقيقة أن الأمر تخطى الملامح وانتقل إلى الوجدان، وكأن الجمهور ينتظره فى تلك المرحلة العمرية، لتبدأ رحلة النجومية، كحالة استثنائية، مع بدايات العقد السادس من العمر.
(أسطى) التمثيل القادر على أن ينتقل بزاوية 180 درجة من النقيض للنقيض، يقول الفيلسوف الفرنسى «هنرى برجسون» فى كتابه فلسفة الضحك (الحياة مأساة تراجيدية لمن يشعرون.. ملهاة كوميدية لمن يفكرون)، تستطيع أن تلتقط المغزى الكامن، وهو أن زاوية الرؤية فى الحياة هى التى تحدد لنا الموقف، هل نذرف دمعة أم نطلق ضحكة؟ والفنان الكوميدى، عندما يتمتع بعمق الموهبة يستطيع أن يلتقط دائماً الوسيلة لإطلاق الضحكات حتى فى عز المأساة والدموع فى عز الملهاة!!.
حسن حسنى من هؤلاء القادرين على توجيه مشاعرنا لكى نبكى أو نضحك، لأنه الممثل الكبير أولا، قبل أن تُطلق عليه (الكوميديان) الكبير، الكوميديا هى العنوان الأكثر جماهيرية، إلا أن الذى منح الفنان الكوميدى كل هذا العمر من البقاء فى مقدمة (الكادر) رغم تعدد الموجات الفنية، وولادة أكثر من جيل، هو عمق الموهبة بل تفردها، ولا يزال حسن حسنى يتمتع بمرونة تتيح له استيعاب مفردات هذا الجيل، والقدرة على فك (شفرة) الزمن، هو الأستاذ صاحب الخبرة العريضة الذى يستطيع أن يُمسك بنبض الشخصية، وكأنه يعيد تشكيل الصلصال، ليُصبح هو (الصلصال)، الذى تتغير فى كل مرة ليس فقط ملامحه ولكن أحاسيسه الداخلية.
ومن أهم المواقف التى عايشتها واقعة كنت شاهدا عليها عام 1993، لا أزال أتذكر جيداً مساء ذلك اليوم، عندما وقف الكاتب الكبير «لطفى الخولى» يعلن من خلال دار الأوبرا نتائج لجنة تحكيم المهرجان القومى الثالث للسينما المصرية.. كنا نترقب بشغف جائزة أفضل ممثل التى كان يتنافس عليها عادل إمام ومحمود عبدالعزيز وأحمد زكى ونور الشريف، ثم جاءت المفاجأة، عندما قال «الخولى» قررت لجنة التحكيم بالإجماع منح جائزة أفضل ممثل للفنان حسن حسنى عن دوره فى فيلم «دماء على الأسفلت»، للوهلة الأولى سيطرت علينا المفاجأة وألزمتنا الصمت، بعد لحظات ضجت القاعة كلها بالتصفيق لحسن حسنى وبالإعجاب للجنة التحكيم، ورئيسها على هذا الاختيار الذى تجاوز فى موضوعيته ونزاهته كل آراء النقاد!!.
كان هذا يعد أول اعتراف رسمى من الدولة بأن «حسن حسنى» ليس مجرد ممثل مبدع فى الأدوار الثانية، ولكنه عندما تتاح له مساحة درامية، يستطيع أن يصول ويجول ويمسك بالتفاصيل الدقيقة للشخصية الدرامية وأصبح هو فرح حسن حسنى، والغريب أن (العريس) لم يتمكن من حضور الزفاف، فلقد كان فى بيروت يصور أحد الأفلام ولم يتسلم الجائزة، التى حملها عنه مخرج الفيلم عاطف الطيب، والذى يعتبر واحدا من أكثر مخرجى السينما المصرية، إيمانا بموهبة حسن حسنى، فلقد كان يرى أن هذا الفنان الكبير بئر لم نرتو منها سوى برشفات قليلة.
وكما أنه لا تجوز صلاة بدون وضوء أصبح فى قانون السينما لا يجوز أن يُصبح الفيلم فيلما بدون بصمة «حسن حسني»!!.
قبل أن نصل إلى الربع قرن الأخير من مشوار «حسن حسني»،والذى أصبح من خلاله عنوانا ثابتاً للحياة الفنية فى مصر، أقلب معكم بعض الأوراق الهامة فى أجندة «حسن حسني» الإبداعية التى وضعته فى تلك المكانة الخاصة لسينما هذا الجيل، نبدأ مع المخرج «عاطف الطيب» حيث كانت بينهما حالة من الكيمائية، «الطيب» منح «حسن حسني» أدواراً هامة فى أفلام «سواق الأتوبيس» و«البريء» و«البدرون» و«ضربة معلم» و«الهروب» ثم البطولة المشتركة مع نور الشريف فى «دماء على الأسفلت»،، حوالى 30% من مجموع أفلام ( الطيب) يشارك فيها حسن حسنى، وهذا دليل عملى على أن الطيب كان يرى فى موهبتة ما لم يستطع أن يراه الآخرون.
ومع «داود عبد السيد» أتوقف أمام دوره الذى أداه بكل انتشاء فى فيلم «سارق الفرح» هذا الفيلم من الممكن أن يعتبر واحداً من أفضل أفلام السينما المصرية ومن أفضل أفلام «داود»، لولا تفاصيل ليس الآن مجال رصدها، بلا شك ظلت هناك لمحات خاصة عصية على النسيان، تابعنا «حسن حسنى» فى مشهد لا أنساه، وهو يعزف على الرق، وأمامه ترقص «حنان ترك» وتتمايل، ومن خلال النظرات المتبادلة بين «حسن حسنى» و«حنان» قدم الاثنان إيحاء بليغاً بلا أى مباشرة لعلاقة جنسية، لم نر شيئاً منها، سوى فقط نقرات أصابع «حسن حسنى» لتضبط الإيقاع، وومضات «حنان ترك» التى تعبر بها عيناها، قال حسن حسنى لداود بعد أن قرأ السيناريو، أنا معك بلا مقابل، يكفينى أن أؤدى هذا المشهد!!.
مع المخرج «أسامة فوزى» فى «عفاريت الأسفلت» دور الحلاق حالة أخرى من التحليق الفنى، كان (المونولوج) الدرامى الطويل هو أحد أسلحة أسامة فوزى فى التعبير، الحلاق الذى كثيرا ما يثرثر بالكلمات والحكايات، وينتقل من حالة إلى أخرى، وهذا نوع من التحدى، بحاجة كما يقولون إلى غول تمثيل، الأمر ليس متعلقا بطول جُمل الحوار، وضرورة حفظها، ولكن بالقدرة على الانتقال بنعومة من حال إلى آخر والتلون مع كل لمحة تعبيرية لتلك الشخصية.
ومع «رضوان الكاشف» فى «ليه يا بنفسج»، كان هو أشبه برائحة زهرة (البنفسج)، فلقد كان يُشكل بتواجده فى دور فاقد البصر بصيرة الفيلم، ومع نجوم الكوميديا قدم من إخراج «شريف عرفة» أول ثلاثة أفلام لعب بطولتها «علاء ولى الدين» وهى «عبود على الحدود» و«الناظر» و«ابن عز».
أول فيلمين (عبود) و(الناظر) من أفضل ما قُدم على مستوى الكوميديا فى العشرين عاما الأخيرة.
ويبقى أن مدرسة الكوميديا الجديدة فى السنوات الأخيرة قدمت أكثر من تلميذ احتل مقعد الألفة فى الفصل، إلا أن هؤلاء لم يحصلوا على شهادتهم إلا بعد توقيع حسن حسنى، على شهادة التخرج، إنه الفنان المبدع صاحب الطلة، (المشخصاتى) كما ينبغى أن يكون (المشخصاتى)، وهذا هو فى الحقيقة مفتاح حسن حسنى، سره وسحره، ظل حسن حسنى داخل الملعب حتى لو استلزم الأمر أن يظل جالسا على الكرسى مثلما شاهدناه فى فيلم (خيال مآنة) إلا أن حضوره وإشعاعه لا يخبوان أبدًا.. وداعا (حضرة الناظر)!!