مرةً بعد أخرى، الفلسطينيون ضحية «المقاومة» التي تقدمهم على طبقٍ من ذهبٍ لآلة السلاح العسكرية الإسرائيلية، فالجميع يعلم اليوم أن المواطن الفلسطيني في غزة سيصبح نهباً للصواريخ والطائرات والقنابل، والبنية التحتية ستتضرر بشكل فظيع، وعنتريات يومٍ واحدٍ ستتحول وبالاً ممتداً.
فتش عن المستفيد تكتشف أبعاداً أكبر للقضية الساخنة، فمنذ سنواتٍ ومحور السلام ينتصر عربياً ومحور المقاومة الإيراني يخسر، ولا حديث يعلو فوق حديث السلام والمستقبل والبناء والتنمية، وكان صمت محور المقاومة غريباً، وها هو يتحرك بنفس الطرق السابقة وفي نفس المكان وبذات الأيدي، والضحية الأكبر هو المواطن الفلسطيني المسكين في غزة المسكينة.
مع بالغ الأسف والأسى إلا أنها لحظة كاشفة بحقٍّ، وعلى المراقب والمتابع أن يرصد جيداً أسماء كتابٍ ومثقفين سيطبلون للمقاومة والممانعة بنفس الفكر القديم والخطابات البائدة، ويمكن أن يرصد خروج خطابات الإسلام السياسي مجدداً بشكلها الفج الصريح والذي سيأتي من بعض البلدان المعروفة في الخليج والعالم العربي ومن الملاجئ الأوروبية عبر قنواتٍ فضائية معروفةٍ، والأهم سيخرج عبر الوسائل الجديدة من «بودكاست» و«مساحات» ليتحدث بنفس الآيديولوجيا ولكن بلغةٍ تتواءم مع المتغيرات، وكم سيكون مثيراً اكتشاف القدرة الحربائية على التلوّن والتشكل هذه المرة.
القضية الفلسطينية قضية مهمة لدى كل الشعوب العربية، هذه حقيقة، ولم يظلمها أحد كما ظلمتها قياداتها وفصائلها التي تؤجر بنادقها ذات اليمين وذات الشمال على دول المنطقة المارقة ومحاورها المعادية للعرب، والدول العربية المعتدلة لا تنكر أهميتها ولا توقف دعمها للشعب الفلسطيني، ولكنها ترفض اختطاف القضية وتسليمها لمحاور إقليمية لا تعنيها فلسطين قضيةً ومواطنين إلا لاستخدامهم ورقةً لتقوية النفوذ في المنطقة.
حركة «حماس» تخرب بيوتها بأيديها مجدداً، خدمةً للمشروع الإيراني، وخلطاً للأوراق في المنطقة، وهي صنعت الأمر عينه نهاية 2008 وبداية 2009 وما سيحدث في الأيام المقبلة، هو تصعيد خطاب المقاومة وآيديولوجيا الإسلام السياسي ومن ثمّ الخضوع واستجرار خطاب المظلومية واستدرار العطف والمساعدات من الدول العربية، ومن أحرق غزة لن يساهم بقرشٍ واحدٍ في بنائها.
مصر مشت في طرق السلام، وفلسطين والأردن والمغرب والسودان والإمارات والبحرين وقطر ولبنان، والمؤشرات تأتي من موريتانيا وعمان تجاه علاقاتٍ من نوعٍ ما، وفي هذا السياق تأتي السعودية والمفاوضات التي تديرها مع أميركا تجاه هذه القضية.
السعودية مثل غيرها من دول المنطقة تتحدث عن السلام مع إسرائيل، وإقامة علاقاتٍ طبيعيةٍ معها، وهذا حديث تفرضه الواقعية والعقلانية والوعي بمعطيات التاريخ وتحديات الواقع وطموحات المستقبل، فهو هنا حديثٌ مستحقٌ لا غبار عليه ولا جدال فيه من حيث المبدأ. أما من حيث التفاصيل فهي رهنٌ بالعملية التفاوضية الواسعة والمعقدة التي تديرها السعودية مع أميركا.
الفرد العربي الذي يتابع سياسات السعودية الجديدة التي تعيد رسم المنطقة، مثل الاتفاق مع إيران وتبعاته، وكذلك تأثيرها الظاهر في التوازنات الدولية مثل الموقف من الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيراته، لن يؤمل من هذا التوجه السعودي نحو السلام إلا خيراً بكل المعاني، وعلى رأسها السياسية والاقتصادية، ولكن هذا لن يعني اختفاء المزايدين بأي حالٍ من الأحوال.
صفحات التاريخ لا تقلب ويفتح غيرها في لحظةٍ فينتهي الماضي ويبدأ المستقبل، بل هي تعبيرٌ عن مسيرة البشر في التاريخ، وهي بطبيعتها تأخذ منحيناتٍ ومنعرجات مختلفة، وهي في حالة صعود وهبوطٍ وتنازعٍ وتصارعٍ مستمرين، والاتجاه الواقعي والعقلاني الواعي نحو السلام لا يلغي عقوداً من الشعارات والمزايدات والخطابات والآيديولوجيات التي لم تحصد سوى الفشل والفشل الذريع، وبعض من شابوا عليها عاجزون عن رؤية أي جديدٍ أو النظر بأولويات وزوايا مختلفة عمّا شابوا عليه.
لهؤلاء أمثلةٌ وتاريخ وخطابات توضح المواقف التي ستخرج في المستقبل تجاه هذه المسألة، ومفيدٌ هنا استحضار بعضها، وعلى رأس هؤلاء القوميون العرب، ناصريون كانوا أم بعثيون أم غيرهم، فقوميو مصر استمروا في استجرار الخطاب القومي القديم وخطب عبد الناصر وقذف إسرائيل في البحر وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ولكنهم بقوا على هامش المجتمع، فالساسة الواقعيون العقلانيون انتصروا في الحرب وعقدوا السلام بقيادة رئيس مصر التاريخي أنور السادات، والمجتمع تجاوز الخطاب القومي وتغلغلت فيه خطابات الإسلام السياسي، فهل يعني هذا نهاية الخطاب القومي العربي؟ بالتأكيد لا، ولكنه انزوى وانكمش وسيبقى له شيبٌ يتغنون به وشباب قلةٌ يتبعونهم على غير هدى، بعيداً عن الكثرة الغالبة من الشباب المتعلق بالحاضر والمستقبل.
من هؤلاء القوميين من رفضوا السلام المصري مع إسرائيل، مثل البعثيين في العراق وفي سوريا؛ فأما بعثيو العراق فتركوا إسرائيل واحتلوا الكويت وأطلقوا أسلحتهم وصواريخهم تجاه السعودية، وأما بعثيو سوريا فتركوا إسرائيل واحتلوا لبنان وتحوّلوا لخدمة الاحتلال الإيراني الموجه ضد الدول والشعوب العربية، وليس أقدر على فضح الآيديولوجيات والخطابات من ضرورات السياسة وحاجات الواقع.
مثل القوميين ما جرى لليسار بأصنافه وأنواعه، فاليساريون كانوا رافضين لكل مسار السلام مع إسرائيل، وهم من أعلى الأصوات الرافضة له حينها، ولكنّ اليسار بطبيعته بضاعةٌ مستوردةٌ بتأثيرٍ دوليٍ هائلٍ إبان الحرب الباردة، وليس له جذورٌ حقيقيةٌ مثل الخطاب القومي، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي ذهب اليساريون شَذَر مَذَر، وتفرقوا وتشتتوا وأصبحوا محل سخريةٍ وتندرٍ لدى شرائح الشباب.
الرفض الأوسع لأي سلامٍ مع إسرائيل كان يأتي من جماعات الإسلام السياسي، في خطبٍ وفتاوى وكتبٍ ومواقع إلكترونية، ولهم في ذلك مساران يسيران بالتوازي: آيديولوجياً وجماهيرياً، الرفض المطلق دينياً وثقافياً واجتماعياً، أما سياسياً، فحركة «حماس» تعاملت مع إسرائيل في غزة، وجماعة الإخوان المسلمين وافقت على تقديم تنازلات غير مسبوقة لإسرائيل إبان حكمهم لمصر بعد فوضى الربيع العربي الأسود، وحين حكموا إيران تغلغلوا في بعض الدول العربية تحت شعار العداء لإسرائيل وهم يعقدون معها الصفقات بالسرّ، وهذا التيار هو الأكثر خطورةً على أي عمليات سلامٍ حقيقيةٍ في الحاضر والمستقبل، فالعهد قريبٌ والقدرة على التلوّن والتقلّب دائمةٌ، وأكثر الأمثلة وضوحاً هنا هو «حزب الله اللبناني» الذي وقّع مع إسرائيل من أجل «حفنةٍ من العنب».
أخيراً، فالسلام خيار المستقبل في المنطقة، وما يجري في غزة هو حدثٌ مؤلمٌ يذكّر بأهمية صناعة السلام والمستقبل.