سيشهد يوم الأربعاء القادم تنصيب جو بايدن رسمياً رئيساً جديداً للولايات المتحدة الأميركية خلفاً للرئيس الحالي دونالد ترمب، وهو تنصيب سيشكل حلقة ضمن سلسلة الانقسام الأميركي العميق الذي بدأ قبل ما يزيد على عقد من الزمان مع الرئيس السابق باراك أوباما وصعود تيار اليسار الليبرالي.
الشأن الأميركي أكبر من أن يقتصر الاهتمام به على الأميركيين فحسب، فأي تغييرات تشهدها أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ تؤثر بشكل مهم على جميع دول العالم وأممه وشعوبه، ولئن كان البعض يخطئ بالاهتمام الزائد بصراعات أميركا الداخلية، حتى كأنه أحد مواطنيها، فإنَّ الخطأ الأكبر هو التغافل عنها وعن شؤونها المؤثرة.
لا يحتاج المتابع للتدليل على حجم وسعة وتاريخية الانقسام الحاصل داخل أميركا، فهذا أمر يشهد له كل شيء تقريباً في هذه المرحلة وعلى كافة المستويات، والحديث الذي يتم تداوله على نطاق واسع وبخاصة لدى فريق الديمقراطيين المنتصر هو أن مرحلة الرئيس بايدن ستكون مرحلةً للم الشمل، وإعادة توحيد المجتمع، والتقليل من حدة الانقسام، ولكن كل شيء يجري على الأرض يعزز عكس ذلك، ومع هذا فلا يمكن الحكم على مرحلة حكم لم تبدأ ولا سياسات لم تطبق واستراتيجيات لم تعلن.
انحرفت أميركا مع أوباما نحو اليسار الليبرالي ثم راجعت نفسها مع ترمب واتجهت نحو اليمين، وهذا الشد القوي بين الطرفين أوصل التيارين لاستخدام العنف بأشكال متنوعة ضد الشعب وضد الدولة ومؤسساتها، سواء من حركة حياة السود مهمة وحركة «أنتيفا» من جهة، أم من حركات اليمين التي تمثل البيض المتطرفين والعنصريين، والمشهد السياسي القائم لا ينبئ بوجود حل حقيقي يسمح بالخروج من هذا الانقسام التاريخي، أقله حتى الآن.
قصة السود في أميركا قصة طويلة من الصراع والصبر والكفاح لأجل الحرية والحقوق نجحوا فيها، وبالتالي فالعنف الذي مارسوه مع بعض التيارات الأخرى المؤيدة لهم وللديمقراطيين مدان، مثله مثل العنف الذي مارسه البيض، ولكن الفارق المهم هو أن البيض لا يمتلكون خبرة السود ولا قدرتهم على الصبر، ومن هنا تأتي خطورة الإصرار على إذلالهم بوصفهم ينتمون لتيار الترمبية فمقدرتهم على العنف أعمق وأقسى، وأي صانع سياسة رشيد لا يريد خلق أي نوع من العنف والفوضى تحت أي ذريعة.
التاريخ البشري مليء بالظلم، في كل أمة وشعب ودين وعرق، لا يكاد يخلو من ذلك أحد، ولكن بعض المظالم تصنع أحقاداً وتنبت من رحم الظلم ظلماً معاكساً وربما يكون أطول مدى وحضوراً. وفي التاريخ الإسلامي قامت خلافة بني العباس ضد مظالم بني أمية، وتحولت مظلومية «آل البيت» إلى مذهب كامل في الإسلام، حكمت باسمه دول من آخرها النظام الإيراني الذي يمثل النسخة الشيعية من آيديولوجيا وفكر جماعات الإسلام السياسي.
مع التحفظ على المقارنات في التاريخ لأنها لا تتطابق، إلا أنَّ بإمكان الإنسان أن يتصور شيئاً من المظلومية التي قد تتضخم لدى التيار اليميني الجمهوري الأبيض المؤيد لترمب، ثم يحسب حجم ردة الفعل المحتملة، والمنتصرون عادةً هم الأقدر على صنع المصالحات المجتمعية الواسعة فهي مهمة الديمقراطيين والرئيس بايدن تحديداً هو الأقدر عليها.
لافت عمل الخارجية الأميركية النشط مؤخراً، فهي تمكنت من صنع اختراقات حقيقية في المنطقة مثل ملف السلام العربي الإسرائيلي وملف محاربة الإرهاب، ودعم المملكة المغربية في قضية الصحراء، ورفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، ولكن في الشهر الأخير فقط اتخذت مواقف سياسية يمكن وصفها بالتاريخية، فهي وسعت وشددت العقوبات على النظام الإيراني، وأدانت صواريخ إيران الباليستية، كما أدانت تدخلاتها الفجة في الشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية وليس الملف النووي فحسب.
ومن ذلك أنها كشفت عن العلاقات العميقة وطويلة الأمد بين النظام الإيراني وتنظيم القاعدة، وهو ما كتب عنه باحثون مختصون منذ سنوات ودللوا عليه بالأحداث والتواريخ والأسماء، ولكن صدوره كموقف رسمي من وزارة الخارجية الأميركية، يحمل دلالات مختلفة ومسؤوليات مستقبلية لكل من سيتولى هذا الملف مستقبلاً في أميركا.
هذا الاعتراف الأميركي، وإن جاء متأخراً، يمثل خطوةً مهمةً في محاربة الإرهاب، إرهاب الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي، وأنَّ العلاقات بين الطرفين ليست عقدية فحسب، بل وسياسية واقتصادية وإرهابية، وهو ما قد يفتح المجال رحباً لرصد العلاقات بين النظام الإيراني والعديد من شركائه الإرهابيين من جماعات الإسلام السياسي السنية مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي تمثل العمق الحقيقي لكل جماعات الإرهاب والتي تربطها علاقات خاصة وقديمة مع النظام الإيراني وأسلافه ما قبل الجمهورية أو الثورة كما يسمونها، وغير جماعة الإخوان كثير مثل السرورية وغيرها.
وقد تعاونت الخارجية الأميركية مع الدولة المصرية في تصنيف حركة «حسم» الإخوانية جماعة إرهابية وأدرجت الإخوانيين «يحيى موسى وعلاء السماحي» اللاجئين في تركيا على قوائم الإرهاب.
هذا موضوع في السياسة وليس موضوعاً في الجماعات الدينية، فتحركات النظام الإيراني مع نظام إردوغان وتيار محاضير محمد في ماليزيا وغيرهما من الدول المسلمة، لتشكيل محور مع بعض الدول العظمى في العالم معادٍ للدول العربية، هو مشروع سياسي خطير ومعادٍ، والتركيز عليه واستشراف مستقبله والعمل على مواجهته أمر مُلح، ويمكن أن يكون هذا السياق منطلقاً للتوسع فيه.
قامت الخارجية الأميركية - كذلك - بتصنيف ميليشيا الحوثي في اليمن جماعةً إرهابيةً وهو الطريق الصحيح لأي حل يراد إنجازه هناك واستعادة الدولة اليمنية لنفسها وإنهاء الإرهاب المهدد للممرات البحرية ومضيق باب المندب والبحر الأحمر ومحاصرة التوسع الإيراني ودعمه للإرهاب في المنطقة.
هذه القرارات المكثفة تمنح المتابع قدرةً على مقارنتها لا بسابقتها بل بلاحقتها كذلك في فترة زمنية وجيزة، تمنح قدرة أسهل على المقارنة والاستنتاج بهدف الفهم وقراءة التغيرات والتطورات.
صراع الهوية بطبيعته صراع عميق ومعقد في كل زمان ومكان، وجزء مهم من الانقسام الجاري في أميركا هو صراع حول الهوية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، والعقلاء يدركون أن صراعات الهوية لا تحسم في انتخابات ولا سنوات معدودة.
أخيراً، فأمام الديمقراطيين سنتان يسيطرون فيها على البيت الأبيض والكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، وبإمكانهم صنع الكثير داخلياً وخارجياً.