بقلم - إميل أمين
حين وضعت الحربُ العالمية الثانية أوزارَها، تحول التفكير الدولي من عند "عصبة الأمم المتحدة"، إلى "هيئة الأمم المتحدة"، بشكلها الجديد ومبناها الزجاجيّ المُطِلّ على نهر الهدسون في جزيرة مانهاتن الأميركيّة.
اعتُبِرت الأمم المتحدة بمثابة أمل جديد للبشرية في تاريخ معاصر من السلام، وحاجز لقطع الطريق على الحروب، والعمل من أجل التنمية البشريّة.
بدا النظام الأساسيّ للهيئة الأمميّة الوليدة، وكأنّه غير عادل، وذلك من خلال فكرة تمتع خمسة أعضاء فقط بحقّ النقض "الفيتو"، وحرمان بقيّة الأعضاء من هذا الحقّ، ما جعل من القرار الأممي لاحقًا رهينة في يد أولئك الخمسة الكبار دون غيرهم.
عبر أربعة عقود أو أَزْيَد قليلاً، عَبَرتْ الأمم المتحدة بالعالم في فترة مواجهات الحرب الباردة، وبصورة أو بأخرى، ساهمت التوازنات الدولية بين حلفَيْ وارسو والأطلسيّ في تمَتُّع العالم بحالة من اللاسلم أو اللاحرب، والتي اعتبَرَها كثيرٌ من المُحلِّلين السياسِيّين خيارًا أفضل من نشوب حرب عالميّة ثالثة.
كان من نصيب الشرق الأوسط أدوار وليس دورًا واحدًا للأمم المتحدة، سِيّما مع اشتعال الصراع العربيّ–الإسرائيليّ بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948.
حكمًا، لم يكنْ للأمم المتحدة، ولن يكون قدرات عسكرية مسلحة، تدعمها وتزخمها في طريق تنفيذ قراراتها بالقوة الجبرية، وبات الأمر مثارًا للسخرية، سِيّما في ضوء رَفْض إسرائيل القرارات الخاصّة بالانسحاب من الأراضي العربيّة المحتلّة عام 1967، وفي مقدّمتها القراران 242، و338.
شَهِدتْ الأممُ المتحدة وأمناؤها العمومِيّون صدامات واسعة بنوع خاص مع إسرائيل، سِيّما أنّ هناك أصابع اتّهام مُوَجَّهة لإسرائيل في اغتيال داغ همرشولد (1953-1961)، بسبب مواقفه المناصرة للحَقّ التاريخيّ العربيّ.
كثيرًا جدًّا ما وَجَد الأمينُ العام للأمم المتحدة، أيُّ أمين عام، نفسَه في مأزق بين ما يمليه ضميره من جهة، وبين الضغوطات التي تُمارَس عليه في داخل المنظمة الأممية من جانب آخر.
هل يعني ذلك أنّ الأمين العامّ ليس حرًّا في اتِّخاذ ما يراه من قرارات أو ما يذهب إليه من مواقف؟
المُؤكَّد أن مجلس الأمن، وحقَّ النقض، يُفَرِّغ سلطات الأمين العام من أيّ قدرات تنفيذيّة حقيقيّة على الأرض، فالرجل كما البابا في روما، ليس لديه فرق عسكرية قادرة على تحريكها لتغيير الأوضاع أو تبديل الطباع على الأرض.
هنا ربّما يكون أقوى مشهد يستطيعه الرجل، هو من خلال الجمعية العموميّة، واللجوء إلى البند السابع من ميثاق الهيئة، المعروف باسم الاتّحاد من أجل السِّلْم.
يُعَدُّ هذا البند نوعًا من أنواع المسارب الأدبية لإحقاق الحقوق، وبخاصة في ظلّ السطوة التي تمارسها الدول الكبرى على الدول الأقل قدرة على صعيد معطيات القوة والمنعة حول العالم.
يمكن للجمعيّة العامّة، وكما رأينا مؤخّرًا، أن تأخذ موقفًا بإدانة هذه الدولة أو تلك، أو توجيه أصابع اللوم هنا أو هناك. لكن من أسف فإنّ قراراتها ذات طابع أخلاقي وليس إلزاميا بخلاف قرارات مجلس الأمن، وحتى هذه الأخيرة إن لم تواكبْها توَجُّهات من قِبَل دولة قطبيّة نافذة، فلن تجد طريقها إلى التحَقُّق على الأرض بأيّ حالٍ من الأحوال.
كثيرًا جدًّا ما وجد الأمين العامُّ للأمم المتحدة نفسَه واقعًا بين المطرقة والسندان، فيما يخصّ أوضاع الشرق الأوسط، والمثال الذي لا يمكن للمرء أن ينساه هو ما حدث في نهاية الولاية الأولى للراحل الدكتور بطرس غالي.
في 18 أبريل 1996، قامت قوات الاحتلال الإسرائيليّ بقصف المَقَرّ التابع لقوات اليونيفيل في قرية قانا في جنوب لبنان، بعد لجوء المدنيّين إليه هربًا من عملية "عناقيد الغضب" التي شَنَّتْها إسرائيل على لبنان، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد 106 مدنيّين.
كان على الأمين العامّ بطرس غالي أن يُشَكِّل لجنة تحقيق، وقد خلص على الضد من رغبة واشنطن في توجيه الاتهام صراحة لاسرائيل، ما جعل وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت السيدة مادلين أولبرايت، تعمل جاهدةً على ألَّا يكمل غالي ولاية ثانية كما جرى العُرْف لمن شغل هذا المنصب من قبلُ.
هل واشنطن هي المتحكم الأول والأخير في الهيئة الأمميّة؟
قد لا يكون الأمرُ على هذا النحو بالمطلق، لكنه في غالب الأوقات تمضي الأمور على هذا النحو، من منطلقَيْن أساسِيَّيْن:
الأول: أنّها أرض المَقَرّ، ورغم الاستقلاليّة الدبلوماسِيّة التي تتمَتَّع بها الأمم المتحدة، إلا أن ذلك لم يمنع واشنطن كثيرًا في أن تمنح أو تمنع البعض من الوصول إلى أرض المَقَرّ، وأحيانًا تضع حدودًا للمسافات التي لا ينبغي لزائريها من الدول التي تراها واشنطن مُعادِيةً تَخَطِّيها.
ثانيا : إنّ واشنطن هي التي تقوم بالجزء الأكبر من التمويل، ما جعلها هدفًا جيدًا للانعزالِيّين الأميركِيّين الذين يرون أن مثل تلك المساهمات الدولية، تُختَصَم من أموال الأميركيّين لصالح من لا يستحقّ.
لماذا الحديث من جديد هذه المَرّة عن الأمم المتحدة والشرق الأوسط؟
حكمًا، يبدو السيد غوتيريش هو المرجع في فتح هذا النقاش مرةً جديدة؛ فقد أعرب عن قلقه حول "الانتهاكات الواضحة للقانون الدوليّ الإنسانيّ في غزة" وتأكيده أنّ "أيّ طَرَف في الصراع المُسَلَّح ليس فوق القانون".
غوتيريش كان واضحًا جدًّا هذه المَرّة من خلال قوله: "لا شيء يُبَرِّر الهجمات المُرَوِّعة من قبل حماس"، لكنه في الوقت عينه بدا مُحَذِّرًا من فكرة "العقاب الجماعيّ للشعب الفلسطينيّ"، وموضحا بالقول: "إنّ الشعب الفلسطينيّ يخضع لاحتلالٍ بغيض خانق على مدى 56 عامًا"، ومشيرًا إلى أنّ "هجوم حماس لم يأتِ من فراغ".
هل كانت تلك التصريحاتُ كفيلةً بأن تَصُبَّ إسرائيل جامَّ غضبِها على غوتيريش خاصةً والأمم المتحدة عامّةً؟
هذا ما جرتْ به المقاديرُ بالفعل؛ فقد طالب سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة "جلعاد أردان" غوتيريش بالاستقالة، وكَتَبَ منشورًا على صفحته على منصة إكس "تويتر سابقًا" قال فيه إنّ الأمينَ العامَّ للأمم المتحدة الذي "أبْدَى تفَهُّمًا للإرهاب والقتل" لا يصلح لقيادة الأمم المتحدة".
هل هذه هي بداية أزمة جديدة لإسرائيل مع الأمم المتحدة؟
قد يكون التساؤلُ الأهَمُّ ما هو مصير غوتيريش، وكيف ستحكم واشنطن عليه في ظِلِّ هذه المواقف؟
قد يكون من المُبَكِّر الحديث عن مآلات المشهد، لكن حكمًا هناك عقبة جديدة باتت قائمةً بين تل أبيب والأمم المتحدة، الأمرُ الذي ربّما يقود إلى مزيدٍ من التعقيدات في التوَصُّل لحَلٍّ لأزمة غزّة.