هل بدأت الدوائر الغربية المُمتَدّة من الاتّحاد الأوروبي، مرورًا بالولايات المُتحدة الأميركيّة، وصولاً إلى كندا، في تغيير نظرتها للحرب الروسية-الأوكرانية، وبمعنى أوسع: هل هناك تفكير مغاير عن الاستمرار في الحرب بهيئتها الحالية؟
الشاهد أن فشل هجوم الربيع للقوات الأوكرانية، رغم الدعم الكبير الذي تلقّتْه القوات المسلحة الأوكرانية، رَسَمَ علامة استفهام على مستقبل هذه الحرب، والتي أرهقتْ كاهل الأوروبيين قبل الأميركيين.
عدة ملامح في الطريق تشي بأن هناك تغَيُّرًا فعليًّا في النظرة إلى أوكرانيا وحربها، ربما تبَدَّتْ بنوع خاص في زيارة زيلينسكي الأخيرة لواشنطن، وحالة الفتور التي قوبل بها، وكأن لسان حال الأميركيين يقول: "لقد أخفق الفتى الذي اعتمدنا عليه"، ومن ثم ربما ينبغي تعديل الخطط ولو بقيت الاستراتيجية الرئيسية في مواجهة بوتين قائمة في الحال وقادمة في الاستقبال.
ربما يمكن الاستدلال بدايةً من عند بولندا، الجار الأقرب، والحليف المفترض الأقرب لأوكرانيا، والتي أعلن رئيس وزرائها قبل بضعة أيام أنها لم تعد تنقل أي أسلحة إلى أوكرانيا... لماذا؟
ليس سرًّا أن بولندا هي ثالث دولة على صعيد تقديم الأسلحة لأوكرانيا، بعد الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، لكن سياقات الحرب التي طالت، وعجز كييف عن تحريك المشهد عسكريًّا لصالحها، بدأ يخيف البولنديين من مغامرة روسية عسكرية جديدة على أراضيهم.
من هنا يمكن للقارئ أن يدرك دلالات تصريح رئيس الوزراء البولندي "ماتيوش مورافيتسكي"،عن وقف نقل أسلحة لأوكرانيا، استنادًا إلى أن وارسو تقوم بتسليح نفسها، خوفًا من تطورات الأحداث.
على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي بدا فيها زيلينسكي ضعيفًا وباهتًا، وخلوًا من أي بريق شمله العام الماضي، شبه "مورافيتسكي"، أوكرانيا بأنها مثل" شخص غارق يمسك بأي شيء"، ومشيرًا إلى أن بولندا مضطرّة لاتخاذ إجراءات لضمان أمنها.
لا تبدو بولندا فقط مَن بدأ يعيد ترتيب الأوراق بالنسبة لوضع أوكرانيا في مواجهة روسيا، ذلك أن الجانب الأميركي بدوره بات يلفه قلقٌ في النهار وأرق في الليل من تعَثُّر زيلينسكي، والذي اعتُبِرَ في الشتاء الماضي لدى زيارته واشنطن بطلاً عسكريًّا يقاوم التوتاليتارية الروسية، فيما ظهر هذه المرة في العاصمة الأميركية، وبعد إلقاء كلمة بلاده في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، كمن يتوَسَّل الدعم الأميركي، إن لم يكنْ يتسَوَّله في حقيقة الحال.
حاول زيلينسكي أن يخفف من شعور الأميركيين بخسارة الرهان عليه، موضحًا أن الهجوم المضادّ لم يفشل بالمرة، وإنما الأمر يقتضي المزيد من الوقت.
لكن هل من أريحية ومُتّسع في الوقت لدى الأميركيين في هذه الآونة؟
المقطوع به أن واشنطن وسياسِيّيها قد ملأهم الغضب والملل، بل السأم من حربٍ طالت أكثر مما يجب، دعموا خلالها زيلينسكي عسكريًّا واقتصادِيًّا بقدر كبير، وإن توقفوا عند الحدود التي يمكن أن تدفع الدب الروسي، لهجوم نووي كاسح، يُعَرِّض العالم لحرب نووية ثالثة.
والثابت أنه رغم صفقات الأسلحة المختلفة التي يعلن عن قيام واشنطن بتقديمها لكييف مؤخَّرًا، إلا أن ذلك لا يلغي مخاوف الديمقراطيين بنوع متميز من أن يضطروا إلى دفع أكلاف غالية من حظوظهم الانتخابِيّة الرئاسية 2024، إن استمروا في تقديم الدعم دون حساب لزيلينسكي، وهو ما يمكن أن يكون أحد "كعوب أخيل" للجمهوريين، للعودة إلى البيت الأبيض من جهة، ولاسترداد غالبية كاسحة في الكونغرس بمجلسَيْه العامَ القادم.
في واشنطن، تحدث زيلينسكي عمّا أسماها "حرب الأنفاس الطويلة"، لكن من الواضح أن الشركاء الغربيين يخشون أن يكون في الأمر فخٌّ روسيٌّ، يستهدف أن يصيب الغرب بالإنهاك على صعيدين:
أوّلاً : الصعيد العسكري، وهذا ما يتجلى اليوم في الداخل الأوروبي، حيث تكاد مخازن أسلحة الأوروبيين أن تفرغ بالفعل، بعد أن قَدَّموا جُلَّ ما لديهم لكييف، ومن غير أن يغير ذلك شكل المعركة في الميدان.
تلفت مجلة "الإيكونوميست " في عدد أخير لها إلى أنه رغم الجهود البطولية واختراق الدفاعات الروسية قرب منطقة "روبوتين"، فإن كييف لم تحرر أكثر من ربع في المئة من أراضيها التي احتلَّتْها روسيا، ولم يتغير شيء حقيقة على خطّ الجبهة البالغ طوله ألف كيلومتر.
تستدعي قراءة الإيكونوميست علامة استفهام عن الوقت والجهد والمال المطلوب من أوكرانيا لتحرير كامل أراضيها، الأمر الذي يقودنا إلى النقطة التالية.
ثانيًا: يمكن لسنوات متصلة من هذه الحرب، والتي لن تخسرها روسيا بحال من الأحوال، أن تُحَمِّل الأوروبيين والأميركيين أعباء عالية وغالية، سوف تختصم من مقدراتهم الاقتصادية وفرص التنمية والاستثمار، ومن غير المُصَدَّق أن يراجع مخططات دولة أوروبية كبرى مثل ألمانيا، والتي تعيش اليوم حالة من العسكرة التي لم تعرفها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، بعد رصد عدة مئات من مليارات اليوروهات لبرامج التسليح، خوفًا من زحف الجيوش الروسية.
الشأن العسكري والاقتصادي عينه ينسحب على الولايات المتحدة الأميركية، والتي تكَبَّدت الكثير من مخزونها العسكري الاستراتيجي في هذه الحرب التي بات الأميركيون يرونها اليوم عبثِيّةً، فيما يعتبر قطاع واسع من الأميركيين أن هناك حاجة داخلية ماسّة للمليارات التي يتمّ دعم كييف بها، سِيّما في ظل أحوال التضخم المعيشية التي يعاني منها نسبة غالبة من الشعب الأميركي.
نجح زيلينسكي في أن يجد نوعًا من الدعم لدى رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، والذي تعَهَّدَ بتقديم نحو 650 مليون دولار كندي على مدى ثلاث سنوات.
غير أن الحقيقة هي أن وضع ترودو في الداخل الكندي غير مستقر، سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية لملايين الكنديين، والذين يتساءلون عما يقوم به رئيس وزرائهم.
هل بدأ جدار الدعم الغربي لأوكرانيا في التصدع؟
لا تبدو هناك تعددية في السيناريوهات المتاحة لنهاية الصراع الروسي الأوكراني، ذلك أن الانتصار الأوكراني أمر مُستبعَد، والهزيمة الروسية شأن مستحيل، فهل سيظلّ الغرب دائرًا حائرًا في حلقة مفرغة ومتصدعة؟
ربما يكون خيار وقف إطلاق النار وبدء مفاوضات سلمية ولو على مضض غربي-أوكراني، وبرعاية الأمم المتحدة، هو الحلّ الأقرب للوسطية ولإنهاء أزمات على كافة الصعد، ونزع فتيل مواجهة كونية يمكن حدوثها حال سخونة الرؤوس، وهو أمرٌ وارد في عالم مختَلّ ومعتَلّ.