بقلم - نديم قطيش
لنلعب لعبة. خلال الأسبوع الفائت قتل الرجل الثاني في «القاعدة» أبو محمد المصري في مدينة شرق أوسطية على يد عميل ميداني إسرائيلي، وبالتعاون مع الاستخبارات الأميركية. في الأسبوع نفسه استهدفت «داعش» مكاناً بتفجير، خلال حضور القنصل الفرنسي مناسبة في المدينة.
حسب سبق صحافي لـ«نيويورك تايمز»، فإن عملية أمنية إسرائيلية معقدة استهدفت أبو محمد المصري في أحد شوارع طهران، ما أدى إلى مقتله مع ابنته مريم، التي هي أرملة حمزة بن لادن، نجل القائد التاريخي للتنظيم الذي عقد قرانه عليها في إيران نفسها!! في حين أن تفجير «داعش» استهدف مقبرة لغير المسلمين في مدينة جدة السعودية أثناء مراسم إحياء ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى شاركت فيها سفارات أجنبية.
تزامن الحدثين يسدد ضربة علنية للسردية المختصرة التي تربط بين السعودية والإرهاب، وتقيم فصلاً حاداً بين الإرهابين السني والشيعي، بدعوى أن الأخير يندرج في سياق مقاومة عابرة للحدود الوطنية ضد إسرائيل وأميركا!
الواقع أن المصري ليس أول قيادي لتنظيم «القاعدة» يكشف عن إقامته في طهران، وبالتأكيد لن يكون الأخير. ولئن كان معلوماً أن عناصر وقيادات من تنظيم «القاعدة» فروا إلى إيران، وأقاموا فيها بعد سقوط نظام «طالبان» في أفغانستان 2001، إلا أن الوثائق السياسية والقانونية تثبت أن العلاقة بين طهران وتنظيم «القاعدة» أكثر تعقيداً من ذلك وسابقة على سبتمبر (أيلول) 2001.
حسب «نيويورك تايمز»، قتل المصري في السابع من أغسطس (آب) الفائت في ذكرى تفجير السفارتين الأميركيتين في نيروبي - كينيا، ودار السلام تنزانيا، وهو الهجوم الأعنف لـ«القاعدة» قبل هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في نيويورك وواشنطن.
ليس المقتول ومكان قتله هو المهم هنا فقط، بل هذا الفصل من سيرته الإجرامية. ففي تقريرها حول جريمة سبتمبر 2001، تقول لجنة التحقيق الأميركية، في تقريرها الموسع، إن بن لادن أظهر منذ مطلع التسعينات اهتماماً خاصاً بعمليات التفجير المشابهة لتفجير مقر المارينز في بيروت عام 1983، الذي هندسه وأشرف على تنفيذه القائد العسكري لـ«حزب الله» عماد مغنية.
وتجزم اللجنة، في تقريرها المنشور، أن عناصر من «القاعدة»، بينهم قادة في التنظيم وناشطون على صلة بتفجيرات كينيا وتنزانيا، طوروا خبراتهم التكتيكية المطلوبة لتنفيذ هذا النوع من الهجمات في أثناء حضورهم معسكرات تدريب خاصة لـ«حزب الله» في لبنان في وقت ما من عام 1993.
اللافت أنه في تلك الفترة أدخل عماد مغنية العمليات الانتحارية، وطور خبرة صناعات العبوات الناسفة وتفخيخ السيارات إلى الساحة الفلسطينية عبر المهندس الشاب يحيى عياش، الذي جنده مغنية خلال فترة إبعاد إسرائيل، قادة «حماس»، إلى منطقة مرج الزهور جنوب لبنان نهاية عام 1992. لا أثر في تجربة المقاومة الفلسطينية لمثل العمليات التي ستشهدها الساحة الفلسطينية قبل عودة مبعدي مرج الزهور، وتسلم عياش قيادة «كتائب عز الدين القسام». كان عماد مغنية قد دخل مرحلة إلهام كامل للحركات الإسلامية «الجهادية» في المنطقة!
وفي وثيقة أخرى من 19 صفحة نشرتها وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه»، خلال ولاية الرئيس دونالد ترمب، وهي من بين الوثائق التي استحوذت عليها واشنطن، في أعقاب عملية تصفية أسامة بن لادن في آبوت آباد في باكستان، يمكن الاطلاع على تاريخ مذهل ومعقد للعلاقة بين «القاعدة» وإيران، إذ تقول الوثيقة إن إيران عرضت على مقاتلي «القاعدة»: «المال والسلاح وكل ما يحتاجونه، بالإضافة إلى التدريب في معسكرات (حزب الله) في لبنان، مقابل ضرب المصالح الأميركية في السعودية».
لم تنشأ هذه العلاقة في الفراغ. فهي ولدت في عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتردي العلاقة بين بن لادن والسعودية وواشنطن، وانفتاح المنطقة على خيار السلام العربي الإسرائيلي، والحضور الميداني العسكري للولايات المتحدة في الخليج بعد اجتياح صدام للكويت. كما لعب الداعية الإسلامي والسياسي السوداني حسن الترابي دوراً استراتيجياً في التقريب بين الفصائل الإسلامية «الجهادية» متعددة المذاهب منذ مطلع التسعينات، تحت مظلة «المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي» ليكون بديلاً عن منظمة «التعاون الإسلامي».
من الصعب القول إن العلاقة بين «القاعدة» وإيران هي علاقة بين حلفاء، بل تحالف ضرورة مشوب بالكثير من الشكوك المتبادلة ونزاع الإرادات، ومحكوم بالصراع العقائدي العميق بين رؤيتين إسلاميتين مذهبيتين متنافرتين.
وقد شكل هذا التنافر مادة لخصوم نظرية التقاطع بين «القاعدة» وإيران لنفيها وإضعاف تناسقها ومصداقيتها، لا سيما حين شك هؤلاء أن ثمة من يوظفها لأسباب سياسية، تتجاوز ضرورات الحرب على الإرهاب، كمثل إيرادها بين الأسباب التي دفعت ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.
ولئن كان من الخطأ العلمي والسياسي المبالغة في تفسير الكثير من عوالم الإرهاب بالتقاطعات الظرفية بين «القاعدة» وإيران، فإنه من الخطأ أيضاً إغماض العينين عن التحالف الموضوعي بينهما، وعدم النظر بنزاهة إلى مساحة العمل المشترك التي نجحا في خلقها واللعب عليها.
ففي كتاب «المنفى»، يوثق الكاتبان أدريان ليفي وكاثرين سكوت كلارك، مستوى مذهلاً من التنسيق بين «القاعدة» وإيران لضرب الأعداء المشتركين لهما، كالعدوان الإرهابي على مجمع سكني في الرياض في عام 2003 أدى حينها إلى مقتل 35 شخصاً بينهم 9 أميركيين. ما يهم في هذا الهجوم أنه تم التخطيط له وإدارة تنفيذه من قادة تنظيم «القاعدة» الموجودين داخل إيران، وبينهم أبو محمد المصري الذي كشفت «نيويورك تايمز» عن تصفيته في أحد شوارع طهران.
المشككون في نظرية التقاطع العميق بين «القاعدة» وإيران عليهم أن يجيبوا عن سؤال بسيط. ماذا يفعل في طهران رجل بمستوى أبو محمد المصري؟ ولماذا يعطى كل أدوات التخفي المطلوبة بما في ذلك هوية مزورة تنتحل صفة مواطن لبناني؟ وهل الأوراق الثبوتية التي كان يتخفى خلفها المصري هي أوراق مزورة أم أوراق تم إصدارها بشكل شرعي في لبنان من مؤسسات يهيمن عليها «حزب الله»؟
المصري قتل في طهران. وجدة كانت عرضة لهجمات نفذها تلاميذ المصري وإفرازاته في «داعش».
هذه ليست مجرد صدف.