إفريقيا هي القارة المظلومة في التاريخ العالمي الحديث، فقد ابتُليت بأشكال من الاستعمار الذي هدم في المجمل بشراهته للموارد، بناءها الاجتماعي - السياسي التقليدي، وحاول أن يعوّضه بأنظمة سياسية لا تناسب الثقافة التي عرفتها شعوب إفريقيا في تاريخها، تلك الأنظمة الجديدة تمّ تشويه العمل بها، فانتشر الفساد والفقر، كما حدث في الغابون الأسبوع الماضي، حيث لا يحق للرئيس ولاية ثالثة وأصرّ عليها، فتمّ الانقلاب العسكري ضدّه. الاّ انّ الظاهرة تتكرّر، فهي كمثل "كوفيد 19" معدية بشراسة...
في كل التاريخ القديم، لم يكن في بلدان تلك القارة مجموعات منظّمة ومسلحة أي جيوش، أو حتى أحزاب، كانت قبائل تحارب بأدوات أولية. عرفت إفريقيا الجيوش في العهد الاستعماري منذ بداية القرن الثامن عشر وما بعده. كما قسّمت أراضي تلك القارة إلى دول لم تراع شبكة السكان بل مصالح المستعمر، فألحقت القوى الاستعمارية أراضي لشعب مع آخر، كما فصلت شعوباً عن بعضها بعضاً، بحسب المصلحة الاستعمارية، أكانت فرنسية أم بريطانية أم هولندية، وبقيت القوة الاستعمارية الاوروبية على وجه الخصوص هي السائدة، التحقت الولايات المتحدة بعد ذلك بتلك المسيرة، ولكن بقواعد مختلفة، وعندما تركت ظاهرياً خلّفت أنظمة مشوّهه سادها الفساد. اليوم يوجد في إفريقيا (السمراء والسوداء) نحو 62 دولة وإقليماً بينها 53 دولة مستقلّة بالمعنى الحديث للاستقلال، يقطنها في تقدير بعض المصادر مليار ونصف مليار نسمة، من بينها 11 دولة عربية، ويشكّل المسلمون
بحسب التقديرات بين 30 و 40 % من المواطنين، منتشرون في عدد كبير من الدول، اما البقية فهم بين مسيحيين متعدّدي المذاهب بسبب التبشير الاستعماري، أو يدينون بأديان طوطمية قديمة في تاريخهم. الأكبر مساحة في هذه الدول 4 دول من بينها ثلاث عربية هي الجزائر والسودان وليبيا إضافة الى الكونغو الديموقراطية. منذ استقلال معظم هذه الدول في ستينات القرن الماضي تقريباً، وقع فيها اكثر من 200 انقلاب عسكري، فمعظم هذه الدول اليوم يحكمها اما عسكر بملابس عسكرية او عسكر بملابس مدنية!
العسكر هم الجماعة الوحيدة المنظّمة والمسلّحة خارج التنظيمات الاجتماعية التقليدية، وكثيراً ما يقفز العسكر إلى الحكم بموافقة او بتحريض من دول، اما استعمارية سابقة قديمة أو حديثة، أو نتيجة صراع دولي كما حدث إبّان الحرب الباردة بين المعسكر الغربي و الاتحاد السوفياتي، أو كما يحدث اليوم في الصراع الروسي- الصيني من جهة والغربي- الأميركي من جهة أخرى.
تصاعد الاهتمام بالموضوع الإفريقي في الآونة الأخيرة منذ الانقلاب العسكري في النيجر في 26 تموز (يوليو) الماضي، وهي بلاد تزخر بالموارد الخام، ربما أكثر من جارتيها اللتين سبقتاها في الانقلاب، وهما بوركينا فاسو ومالي اللتان سبقتهما غينيا بيساو (2021) وزيمبابوي (2017) من دون أن ننسى السودان (2019)، فقط لتسمية البعض. أما في موضوع الانقلاب الأخير في الغابون الأسبوع الماضي، فإنّ فرنسا تعرف حجم الفساد فيها، حيث اتُهم 9 من أبناء علي بونغو الرئيس المخلوع، ومجموعهم 45 فرداً، بقضايا فساد مالي في فرنسا!!
ورغم محاولات المنظمات الدولية والإفريقية تقنين الاندفاع إلى الانقلابات، والحث على إقامة أنظمة ديموقراطية واحترام تبادل السلطة سلمياً، الاّ انّ تلك الاتفاقات سرعان ما ينساها العسكر.
يُظهر العسكر القائمون على تلك الانقلابات أنّهم مُخلّصون للشعوب من الأنظمة القديمة، وفي الغالب توصف النخب الحاكمة بأنّها عميلة للغرب وفاسدة، كما يطرحون شعارات شعبية في الأغلب تؤيّدها الجماهير الفقيرة، والتي ترى بأم عينها فشل التنمية التي تنادي بها ظاهرياً الأنظمة القديمة وانتشار الفساد.
حقيقتان تتحكّمان في تفسير ظاهرة الانقلابات الإفريقية العسكرية، الأولى فشل سياسة الإصرار الغربي على زرع الديموقراطية من دون محتوى تنموي ملموس، لتظهر الديموقراطية وصناديق الانتخاب وكأنّها لعبة يتسلّى بها كبار القوم، وتحمل من الفساد والزبائنية الشيء الكثير، فزهدت بها الشعوب. والثانية الصراع الدولي على الموارد والنفوذ، فكما شهدنا نشاطاً واسعاً في الانقلابات إبّان فترة الحرب البادرة، نرى نشاطاً آخر من جديد في وسط الصراع الدولي القائم اليوم، ولقد شهد العالم رفع أعلام روسيا الاتحادية في عاصمة النيجر منذ الانقلاب!
رغم انّ الانقلابات العسكرية الإفريقية تبدو كأنّها ورود تتفتح بأمل أفضل بالنسبة إلى الجماهير التي تعضدها في البداية، الاّ انّ الامر لا يطول حتى تتبين الرائحة الكريهة لتلك الورود، لأنّ العسكر في كل الأحوال لا يملكون تصوراً او مشروعاً تنموياً حقيقياً، فسرعان ما ينكشف انّ نظامهم أكثر فساداً من سابقيه من الأنظمة وأكثر قسوة واستبداداً، وأقل منفعة للجمهور العام، فتعالج الأمور بانقلاب آخر، وهكذا، حتى اصبح 90% من أنظمة دول هذه القارة المنكوبة، عسكرية في وقت او آخر، كما تفشت قوى الإرهاب المدّعية الإسلام، بل وحتى المسيحية!!
يزداد نتيجة ذلك الفقر والهروب الجماعي إلى أماكن أخرى قد تقدّم وعداً بحياة افضل، وتستنزف الثروة الوطنية وقد تشعل الحروب البينية والأهلية.
التقدّم إلى الأمام للشعوب له ثمن، عادةً تدفعه النخب المستنيرة بأن تشكّل المثال في الممارسة والرافعة، من خلال النأي بالنفس عن الفساد والزبائنية، وتقديم مشروع تنموي حقيقي قائم على الكفاءة والمساواة والاستخدام الأفضل للموارد والقوانين العادلة، يسبق كل ذلك، تعليم حديث متميز وقوانين واضحة وحديثة مبنية على مصالح الناس القائمة على العقل، لا على الخرافة.
غير ذلك، سوف يبقى العسكر وشبه العسكر يأخذون شعوبهم وأوطانهم إلى المجهول، مصحوباً بالقمع والقهر والحروب، حتى لو كانت أراضيهم تمتلئ بخزائن الدنيا من الموارد المادية. حرّية الإنسان وكرامته وتعليمه هي القاطرة إلى الحضارة الحديثة، من دونها تبقى المجتمعات في الحضيض، مع الكثير من النجوم اللامعة على الأكتاف والبدلات الأنيقة والعباءات الفضفاضة!