بقلم : د.محمد الرميحي
في التاريخ العربي الحديث، الإشارة إلى «القضية»، تعني القضية الفلسطينية، وقد تركت منذ قرن تقريباً إلى اليوم، آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المدمرة على المنطقة كلها، وعلى العرب بشكل خاص، وتلك القضية ما زالت مؤثرة إلى العظم في النسيج الاجتماعي السياسي العربي.
ونحن اليوم نرى كم من العواطف الجياشة التي تحيط بما يحدث في غزة.
المعركة هي «حضارية، علمية» وليست معركة عواطف أو تمنيات، ولقد غاب عن معالجتها المنهج العقلاني، وحضر الكثير من الضباب العاطفي، وحتى شيء من «الشعوذة» وربما إلى يومنا هذا.
البعض يرى أنها معركة بين «الإسلام» و«اليهودية» وهذا فهم خاطئ، المعركة بين من يملك الأدوات المنهجية والضرورية والحديثة لخوض صراع وطني، ومن يفتقد تلك الأدوات أو كثيراً منها.
ليس جديداً القول إن الدولة الإسرائيلية رغم ما تحمله من شرائح مختلفة، هي ناتجة بالأساس من الليبرالية الغربية، رغم أنها تحمل معها شرائح مؤمنة بالتراث اليهودي والكتب المقدسة اليهودية، إلا أن من قاد الدولة وبنى هيكلها السياسي والاقتصادي هي الشريحة الأولى.
في المقابل، تغادر القوى الفلسطينية المختلفة التي تصدت لقيام الدولة الإسرائيلية منذ بذرتها الأولى، حتى قبل إعلانها رسمياً عام 1948 وما بعد، تغادر منشأها «الزراعي، الأبوي، التراثي» ببطء، فكان الاستعانة بالتراث من جهة، وبالعلاقات الأبوية من جهة أخرى، هي صلب ما قامت عليه المجموعات الوازنة الفلسطينية، منذ النشاشيبي الحسيني، إلى الفتحاوي الحماسي وما بينهما.
مع الاعتراف أن هناك «طليعة فلسطينية» متعلمة وعقولاً حديثة، إلا أنها ظلت شريحة مهمشة في الغالب، وبعيدة عن القرار، بل إن شخوصها طالهم الاغتيال على مر سنوات الصراع، ويكفي أن نتصفح كتاب باترك سيل، الكاتب البريطاني، وهو بعنوان «بندقية للإيجار» حتى نتعرف على الطريقة «الحمقى» التي عاثت اغتيالاً في العقول الفلسطينية التي كانت تقدم التفكير والمنهج الصحيح.
لعل أحد الأسماء المرموقة التي عالجت تلك المعضلة، أي بين البقاء في التفكير للمجتمع الزراعي الأبوي، التراثي، وبين ما يحتاجه العصر من أدوات، أعمال المبدعة الفلسطينية سحر خليفة في مجمل أعمالها الأدبية، وخاصة في الجزء الأول والثاني من كتابها «روايتي لروايتي»، فهي عندما تدرس مسيرة «النكبة» و«النكسة» وما بينهما من أحداث، ترى أن الخروج من «القمقم» كما سمته هو الاعتراف أن «هزيمتنا ليست سياسية وعسكرية فحسب، لكن أيضاً اقتصادية، اجتماعية، ثقافية ونسوية» وترى أن التحرير هو الخروج من «الميراث الزراعي الأبوي التراثي والذكوري» وتشير كمثال أن «قضية المرأة وتحررها من القيود» لم تلتفت لها الحركات التحررية الفلسطينية، بل تركت أسيرة القيم التقليدية، «فارتاحت القيادة إلى ثناية الولاء والانقياد»!
في الحقيقة أن النخب الفلسطينية الواعية لم تكن هدفاً «للغلاة الفلسطينيين» فقط، بل أيضاً كانت هدف اغتيالات إسرائيلية منظمة، لتفريغ المجتمع الفلسطيني من العقول التي تفهم صلب الصراع وتقاومه بمثل أدواته. ربما قليلون يعرفون أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت بقيادة النساء، ربيحة ذياب، اسم مطفئ في التاريخ الفلسطيني، ولكنها كانت القائدة وقت ذاك عام 1988 عندما كانت القيادات مشتتة خارج ساحة المعركة، ولكن تلك الانتفاضة كما غيرها من الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب الفلسطيني، لا تؤتي أُكلها السياسية بسبب فقدان البوصلة السياسية الحديثة.
اليوم في معركة غزة، يبدو أن الرابح هو غير الفلسطيني في الجوار، وكل ما يطرح هو تبادل الأسرى، وربما استئناف العصف العسكري الإسرائيلي الهمجي، لم يطرح الطلب الأساسي وهو دولة مدنية ديمقراطية حديثة، يتساوى فيها المواطنون والمواطنات، ذلك ربما بعيداً عن التفكير الذي لم يفارق مخرجات المجتمع الزراعي الأبوي التراثي والاستحواذي، غياب من يقرأ الواقع ويبتكر الأدوات المناسبة له هو المفتقد، فتذهب تضحيات كبرى سدى!!