بقلم : د.محمد الرميحي
المتابع لأحداث الإقليم الخليجي يلحظ حراكاً غير مسبوق على الصعيد السياسي، بعد وفاة المرحوم الشيخ نواف الأحمد، وتولي الأمير مشعل الأحمد زمام الدولة. لقد تابع كثيرون خطاب الشيخ مشعل في جلسة القَسَم، 20 ديسمبر، وما تلاها من رمزيات بعد ذلك مباشرة، كما ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالتوقعات، لا يخلو كثير منها من (أجندات) مختلفة، بما فيها البيان أيضاً غير المسبوق من بعض أعضاء مجلس الأمة القائم حتى الآن.
الأسابيع القادمة سوف تظهر لنا الكثير مما هو حتى الآن (مجرد رؤوس أقلام)، أما التفاصيل فينتظرها الجمهور الكويتي والخليجي على الأخص، شاخصة عيونهم على أحداث الكويت، وبعضها غير مسبوق، لا في لهجة النطق السامي ولا في مفرداته.
يحيط بالكويت تقريباً مشروعان، مشروع تنموية آخذ في التطور، ومشروع آخر يحيطه الارتباك إن لم تكن الأزمات شبه المزمنة. في جنوب الكويت مشروع متمثل في تجربة متعددة المستويات، ترنو في مجملها إلى الحداثة والمعاصرة، ومسايرة العصر، وتحقيق رفاه المجتمع، وهو ما يحدث في دول مجلس التعاون، وأما في شمالها فهناك تعثر وتبعثر يزيد من أزمات شعوب المنطقة تلك، بل وبعضها يدخل في حروب أهلية.
الكويت علاقتها استراتيجية بالجنوب، بجاراتها في الخليج، كما أنها بدأت بتجربة تنموية ما زالت تذكر فتشكر، في التعليم والخدمات الصحية، والأعمال الثقافية المتميزة وأيضاً في الدبلوماسية النشيطة. كل تلك النجاحات شابها الكثير من الضباب في السنوات الماضية، فقد تحولت القبيلة، وهي تنظيم اجتماعي، إلى قبلية، أي منحى سياسي وإقصائي، والتعددية الثقافية الحميدة إلى طائفية منكرة، وتحقيق الخير العام الذي بناه الآباء الأوائل، إلى خير (الخواص)، وتراجعت الاستنارة إلى شبه الظلامية في فهم خاطئ للقيم العليا التي بنيت عليها الدعوة الإسلامية، وطغى التعنت، إلى درجة أن تحتكر طائفة صغيرة في المجتمع (الوصاية) على القيم الاجتماعية وتفرض تصورها الخاص على الآخرين في مفارقة واضحة لطبيعة الإنسان، وأيضاً مفارقة لطبيعة المجتمع الكويتي المدني والتجاري، الذي قامت عليه الكويت قبل النفط واستمر لسنوات يقود التغير الحميد ومسايرة العصر بعد النفط.
لذلك فإن التنمية بشكل عام دفعت الثمن، في وقت تحضر شريحة واسعة من الكويتيين ذات قدرات مشهودة وتقريباً في كل مجالات الحياة الحديثة، من إداريين ذوي كفاءة عالية، وأطباء مشهود لهم دولياً، واقتصاديين حاذقين نجحوا في مشروعات ضخمة خارج الكويت وما زالوا مستمرين، وأعمدة ثقافية متسعة الأفق، أنتجت مسرحيات وسيمفونيات، وكم كبير من الإنتاج الثقافي المميز، كل ذلك في السنوات الأخيرة تراجع إلى الخلف، وتقدم الخير الخاص وجماعات الوصاية وما دون الدولة، خلف ذلك نفوراً بين مكونات المجتمع وتلاشت قيم الدولة في قيم ما دون الدولة بأشكالها المختلفة.
لذلك لم تأتِ صيحة الاعتراض على كل ما يجري من قبل قائد الكويت إلا استجابة لهذا القلق المتراكم، وشبه المزمن، الذي أفقد كثيرين الأمل في التغيير إلى الأفضل، ودخل المجتمع في نزاع أفقده قدرته المناعية، وتعرضت إدارته العامة إلى الترهل.
ما يحدث في الكويت إذاً ليس خاصاً بها، إنما في الإصلاح القادم مناعة لدول المنطقة خاصة جيرانها في دول مجلس التعاون، والذين كان كثير من ثقاتهم يتحسرون على ما يحدث للكويت من ضياع فرص، بعد أن كانت المنارة.
عناوين الإصلاح تم الإشارة إليها في خطاب الأمير في 20 ديسمبر الحالي، والمنتظر مجموعة خطوات قادمة وسريعة لإصلاح مسار طال انتظاره، واللحاق بركب إخواننا في الخليج، لتشكيل منظومة تنموية تنفع البلاد والعباد وتنيء عن الأزمات المحيطة التي تفقر الشعوب وتمعن في تخلفها.
*أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت