أصبح لدينا شيء اسمه «صفقة القرن»، لن يُغير من الأمر شيئاً إن سميتها أي تسمية تريدها! فهناك مشروع سياسي يخص مستقبل العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية، والقضية الفلسطينية تسمى صدقاً بالقضية العربية، وتشتبك في منطقتنا على وجه الخصوص بعدد من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية بل الأخلاقية. هي جرح مفتوح مملوء بالملح، وهي ليست بالسهلة، فقد كتب فيها، وتحاور حولها، وانشغل بها، وقتل من أجلها كثير، منذ نشأت قبل 100 عام. الاقتراب العاطفي منها سهل وممكن، وإثارة المشاعر أيضاً ميسرة، الصعب هو مناقشة القضية على ضوء التحليل الواقعي والبعيد عن المزايدة. لقد كُتب كثير منذ إعلان «الصفقة»، بعضه آثار غبار لوم للماضي، وبعضه تصفية حسابات بين أشخاص أو قوى، وبعضه ليس أكثر من شتم صُراح، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي.
المشهد الذي انتهى بإعلان «صفقة القرن» هو مشهد فيه لاعبون كثر، لكن أهمهم هو ما يمكن أن يسمى «الشعبوية»، وهو مرض أصاب في السنوات الأخيرة الديمقراطيات الغربية، ورتب آثاراً بالغة العمق في كثير من السياسات. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو نتيجة هذا المرض، الذي لعب على الشعور الشعبي الوطني البريطاني، ذلك مثال، وهناك أمثلة كثيرة، فيما يخصنا، فإن دونالد ترمب يمكن أن يكون «سيد الشعبوية الأميركية المعاصرة» ليس تجاه القضية الفلسطينية، بل تجاه معظم القضايا السياسية والاقتصادية التي واجهت إدارته محلياً وعالمياً، فهو يبحث عن أصوات من أجل عودته إلى البيت الأبيض في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل 2020. إضافة إلى ذلك فإن «الانقسام في الداخل الأميركي غير المسبوق» زاد من رغبته في تبني قضايا تحقق له الشعبوية، ومنها القضية الفلسطينية ذات الصدى في قطاع واسع من المجتمع الأميركي تعاطفاً مع إسرائيل.
ولم يكن بنيامين نتنياهو أفضل موقعاً وحرجاً سياسياً منه، فبجانب رغبته في البقاء في السلطة ممثلاً اليمين الأقصى، وأمام اتهامه أيضاً بعدد من الخروقات القانونية وخوضه الانتخابات 3 مرات في عام واحد، دون فوز واضح نتيجة عدم اليقين السياسي الذي يحيط بإسرائيل، يبحث نتنياهو عن شعبوية، ويقدم ما يعتبره إنجازاً أمام ناخبيه للعودة إلى السلطة، وبمجرد أن انتهى عرض «صفقة القرن» في البيت الأبيض، طار نتنياهو إلى موسكو، ليعود إلى تل أبيب وبيمينه سيدة إسرائيلية أفرج عنها بعفو رئاسي روسي من تهم خطيرة، وأضاف إليها لقاءه مع عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، مشاهد تعزز تلك الشعبوية المطلوبة.
تلك بعض الدوافع السياسية التي وُظفت في صفقة القرن من أجل توسيع القواعد الشعبية لمخططيها، ولكن ليس كلها، فالعرب المناصرون الأول والطبيعيون للقضية يعيشون في فقاعة سياسية منذ عقدين من الزمان، من انقسام في مكان، وحروب أهلية في مكان آخر، ويمكن أن يسمع الفلسطينيون منهم كلاماً جميلاً وصادقاً، لكن لا يتجسده في تصور للخطة «ب» مفكراً فيها أو مُجمعاً عليها.
الجانب الآخر (الأميركي الإسرائيلي) وضع خطة، فماذا فعل الفلسطينيون في هذا الظرف السياسي الرمادي؟ قد يُجدى التفكير في تصور بديل يقف على 4 قواعد عقلانية.
أولاً؛ لن يكون جديداً مطالبة الفلسطينيين بوحدة وطنية، وكل المحاولات التي بذلت من العرب للمّ الشمل الفلسطيني ذهبت أدراج الرياح، ومنها اللقاء الشهير في مكة الذي رعاه الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، مع محاولات وجهود كثيرة ودؤوبة ومكررة، واحد من الردود العقلانية على «صفقة القرن» هو أن يحقق الفلسطينيون الوحدة الوطنية. إحدى القواعد الثابتة في تاريخ حركات التحرير في العالم هي وحدة القيادة ووحدة الأهداف لشعب يرغب في تحقيق تحرره. في الانقسام يتحقق الهُزال وتُخسر القضية. الشعب الفلسطيني انتثر جماعات متخاصمة كتخاصم الصيادين على طريدة، قبل صيدها! مؤسف ومحير وغير عقلاني هذا الموقف، بصرف النظر عمن هو المتسبب، فالجميع هنا متهمون بالتراخي، بل الأنانية المفرطة وقصر النظر. اليوم ليس المطلوب الذهاب إلى الوحدة «العاطفية الكلامية» تحت ظروف استثنائية، بل الذهاب إليها كواحدة من القواعد الاستراتيجية التي لا مجال لحراك دونها، ومعها بالتزامن انتخابات حرة ومؤسسات فاعلة ومحترمة من الجميع وقيادات جديدة، نعم قيادات جديدة شابة تحمل مشعل التحرير وتتعامل مع العالم بلغته العلمية والمصلحية الحديثة، ليس ذماً في القيادات الحالية والتاريخية لكن انسجاماً مع صيرورة تاريخية واجبة. الشق الفلسطيني لم يتوقف عند التناحر البيني في الساحة الفلسطينية، بل تعداه إلى استزلام بعضهم غير المبرر والأعمى سياسياً لقوى إقليمية تريد أن تأخذ من القضية سنداً لشعبيتها دون أن تقدم لها سياسياً أي قدرات مضافة، بل تبعدها عن بيئتها العربية.
ثانياً؛ نظراً لميزان القوى المختل، فإن على القيادة الجديدة التوجه إلى العالم، وخاصة عواصم العالم المؤثرة في القرار، واستمالة أكبر عدد من القواعد السياسية في تلك البلدان، وليس جديداً القول إن هناك شريحة معقولة في مؤسسات تساهم في اتخاذ القرار في الغرب متعاطفة مع القضية الفلسطينية ومتفهمة للمأساة التي وقع فيها الفلسطينيون وما زالوا. على الإدارة الفلسطينية الجديدة الموحدة والفاعلة والقائمة على المأسسة أن تفتح حواراً واسعاً مع تلك الشرائح، فهي القواعد التي يعتمد عليها متخذ القرار في الديمقراطيات الحديثة.
ثالثاً؛ المؤسف أن الثقافة العامة لشريحة واسعة من الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي تحتاج إلى إعادة زيارة جدية. فكثير منهم يقاطع الانتخابات التي تجري في إسرائيل ويقاطع المؤسسات التي يمكن من خلالها التأثير الإيجابي على قضيتهم، فلا تعرف على أي سند يفندون تلك المقاطعة وذلك العزوف، إلا على ثقافة رفض ليست لها قاعدة من منطق. اليوم ممثلو تلك الشريحة الفلسطينية في الداخل الإسرائيلي يبلغ من يحق لهم التصويت في الانتخابات نحو مليون صوت، ولو أجمعوا على قائمة واحدة وصوّت 80 في المائة منهم لحقّ لهم إيصال 20 عضواً في الكنيست أو أكثر، أي من جملة 120 مجموع أعضاء الكنيست، ويمكن أن يشكلوا ثقلاً ملحوظاً في ضوء الانقسام السياسي الإسرائيلي الحاصل. بمعنى آخر... أن يصبحوا من أكبر الكتل في المجلس التشريعي. نسبة إقبالهم في آخر انتخابات كانت فقط 64 في المائة!
لقد نشر في سلسلة «عالم المعرفة» التي تصدر من المجلس الوطني في الكويت (أغسطس/ آب 1997) كتاب حول إشكالية الهوية في إسرائيل لرشاد الشامي، أثبت فيه القوة الكامنة والممكنة للقوة الفلسطينية في الداخل الإسرائيلي، لكن غير مستفاد منها، فهي منغلقة على نفسها ومتخاصمة!
رابعاً؛ هناك قوى سياسية وثقافية من الإسرائيليين أنفسهم مساندون للحق الفلسطيني، ذلك مصدر مهم يمكن الاستفادة منه وتطوير العلاقة معه توظيفاً للحق الفلسطيني.
تلك النقاط الأربع يعرفها الفلسطينيون، والتلكؤ في الاستفادة منها خطيئة تاريخية يُساءل عنها متخذ القرار الفلسطيني في كل تلك الجماعات المتناحرة، فبقوة القرار الفلسطيني الموحد تقوى قوى التأييد الأخرى، عربية وغيرها، وهي رأس الرمح، ولن يكون هناك رمح دون رأس!!
آخر الكلام:
ثورة التعاطف القائمة مع القضية اليوم هي عاطفية وآنية، سرعان ما سوف تختفي، ولو كان هناك قدر من الحكمة لاعتمدت خطوات علمية وعقلانية تجاه الملف كاملاً، فـ«صفقة القرن» لم تكن سراً، ولم تولد أمس، مقدماتها عرفت منذ سنوات!!