بقلم - عبد الرحمن شلقم
رحل السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان. رجل كانت أفعاله كتاباً من الأفكار، وسياساته أضواء رؤية واسعة بعيدة المدى. حكم بلاده في حقبة من الزمن اهتز فيها العالم سياسياً وعسكرياً. تلاشت الكتلة الشيوعية الشرقية، وانهارت أنظمة، وتغيرت مسارات الاقتصاد والسياسة في العالم. الرجل قليل الكلام ومحدود الحركة خارج سلطنته، أسس سياسة «لا عدو» ولم يغلق بلاده، ولم ينغلق في أفكاره، وحافظ في ذات الوقت على الثوابت والقيم الاجتماعية التي ورثتها البلاد.
زار السلطان قابوس ليبيا مرتين؛ الأولى سنة 1972 وكان قادماً جديداً حينها على عرش السلطنة، وكذلك الراحل معمر القذافي. الوضع في اليمن فرض نفسه في تلك الزيارة - وخاصة هيمنة الشيوعيين على السلطة في اليمن الجنوبي. كان القذافي مهتماً بقضية توحيد اليمن، دون أن يخفي انزعاجه من سيطرة الشيوعيين على جنوب اليمن. أرسلت ليبيا إلى عدن شخصيات مثقفة لتقييم الوضع، وأبرزهم عبد الله بانون، الذي عاد بما يؤكد أن البلاد في قبضة الشيوعيين التابعين فكرياً وسياسياً للاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية التي وسعت دعمها لهم، وزاد ذلك من توسيع مساحة التواصل بين ليبيا وسلطنة عمان. العلاقات بين البلدين لها جذور خاصة وقديمة. المذهب الإباضي الذي تتبعه الأغلبية في عُمان له وجود في شمال أفريقيا، وفي ليبيا كان له على مر التاريخ فقهاء بارزون امتدت دراساتهم واجتهاداتهم بقوة إلى عمان حيث صار لهم مريدون كثر. لم يتوقف الحضور الليبي في عمان على جانب التواصل المذهبي، بل تعداه إلى السياسي، وخاصة عن طريق العالم والمجاهد والسياسي سليمان باشا الباروني، أحد مؤسسي الجمهورية الطرابلسية. أقام الباروني في عمان من سنة 1924 إلى سنة 1940 وعمل مستشاراً لحكامها، وتولى مناصب إدارية وسياسية، وساهم بقوة في الحياة الثقافية والفكرية العمانية.
في منتصف سبعينات القرن الماضي، ظهرت في السلطنة حركة يسارية مسلحة، عرفت بحركة تحرير ظفار، وكانت جمهورية اليمن الجنوبي من أكبر داعميها. في البداية كانت الحكومة الليبية مترددة في التواصل مع الحركة ودعمها، لكن أطرافاً من الكتلة الشرقية وبعض اليساريين العرب نجحوا في تغيير الموقف الليبي، وكان ذلك إيذاناً بالعداوة بين البلدين. تم ترتيب زيارة للراحل معمر القذافي إلى مسقط أثناء عودته من رحلة إلى آسيا، وكان السلطان قابوس وأركان حكومته في انتظاره بالمطار، لكنهم أبلغوا في اللحظة الأخيرة أن العقيد معمر القذافي ألغى زيارته لعمان، وسينزل بعدن، وكانت تلك الحادثة إعلاناً للعداء بين البلدين. نجح السلطان قابوس في إنهاء تمرد ثوار ظفار، واتبع معهم سياسة الاحتواء، واستوعب كثيراً منهم في دواليب دولته، بل إن بعضهم صار من أركان حكمه. الراحل السلطان قابوس لم يؤمن يوماً بسياسة قطع العلاقات بين الدول، حتى عندما قطعت أغلب الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع مصر بعد زيارة الرئيس الراحل السادات إلى القدس وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، لم تقطع عُمان علاقاتها معه. شنت أجهزة الإعلام الليبية هجوماً حاداً ودون توقف على السلطنة، لكنها لم ترد إلا في مرات قليلة، وبأسلوب هادئ وناعم، واستمرت في مبادرات لتطبيع العلاقات بين البلدين. الزيارة الثانية للسلطان قابوس إلى ليبيا كانت سنة 2008 حيث وصل إلى طرابلس بيخته الخاص الضخم، والتقى في جلسات خاصة ومطولة مع الراحل العقيد معمر القذافي. كانت تلك الزيارة نوعية بكل المعايير. بحديقة معسكر باب العزيزية، جلس الزعيمان في لقاء حميمي طويل، وتحدثا في القضايا العربية والإسلامية والإقليمية والدولية. قضيتان أسهب فيهما السلطان، القضية الفلسطينية والعلاقة مع إيران. قال السلطان إن إسرائيل فرضها علينا التاريخ والخيارات السياسية الدولية، وإننا عرباً لم نحدد استراتيجية عملية طويلة في التعامل معها بما يحفظ الحقوق الفلسطينية من منطلق قدراتنا العسكرية والسياسية الدولية، وهل يمكن هزيمة إسرائيل بالحرب أم باحتوائها بالسلام؟ إيران جار لنا معه روابط دينية وتاريخية وحضارية، وبهذه الحقائق نحن عرباً في موقف أقوى، ونستطيع عبر القوة الناعمة أن نجعلها معنا، وليس ضدنا في التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم. وتحدث السلطان عن الوضع في العراق، وكذلك أهمية تفعيل كتلة المغرب العربي التي يمكن أن تكون قوة لها وزن كبير بحكم موقعها المقابل لأوروبا وامتدادها الأفريقي وقوتها البشرية والاقتصادية. استمع له القذافي باهتمام، وركز على أهمية تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين وتوسيع التشاور السياسي والتعاون الاقتصادي.
السلطان قابوس بن سعيد، كان رجلاً مسكوناً بالفن، يعزف على آلة العود ويتذوق الموسيقى ويعرف كثيراً عن كبار الفنانين العرب والعالميين. بنى دار أوبرا فريدة في عمان، وجعلها رمزاً للتحديث والتنوير. فتح أبوابها للشباب والشابات ليكونوا عازفين لأعظم ما أبدعه رموز الأوبرا في العالم، من بيتهوفن إلى فيردي وفاغنر وغيرهم، وصارت دار الأوبرا العمانية معلماً يرتاده الزوار في موسمها السنوي. أثناء زيارته إلى طرابلس حمل معه هدية فن إلى ليبيا، في حفل العشاء الذي أقامه بيخته «المعلم» على شرف الراحل العقيد معمر القذافي، كانت فرقة موسيقية تعزف من وراء ستار ألحاناً ليبية متنوعة بإتقان عالٍ أبهر الجميع، ما جعل الحديث عن الفن موضوعاً يفرض نفسه، وللسلطان فيه باع لا تحده حدود. على مائدة العشاء في ذلك اليخت بمعالمه العمانية ولدت كيمياء إنسانية بين الشخصيتين اللتين تحملان رتباً عسكرية، ودرستا في بريطانيا.
لا شك أن السلطان الراحل شخصية كان لها تكوين خاص، ورؤية تأسيسية لدولته ترتكز على مكوناتها الاجتماعية وموروثها الديني والثقافي وتوظيف القدرات الوطنية للتحديث والتطوير، بما لا يخل بمنظومة القيم والتعايش المبني على قاعدة المواطنة. عمان التي كانت يوماً إمبراطورية لها امتداد في شرق أفريقيا، وخاصة في إقليم زنجبار، ما زال أثرها حياً في كثير من البلدان الأفريقية عبر اللغة السواحلية الزاخرة بالكلمات العربية، وفي نمط الحياة والسلوك الاجتماعي والفنون، وكذلك الدين الإسلامي، واستطاعت السلطنة أن تحافظ على ذلك التاريخ بتواصل ثقافي واجتماعي لا يتوقف. رحل قابوس ليبقى علامة من علامات الحكمة السياسية وأضواء التحديث الهادئ والقوة الناعمة الفاعلة.