بقلم - عبد الرحمن شلقم
منذ وُجد الإنسان على الأرض، اخترع السلاح ليكون عضلة مضافة، ومع كل تطور يبدعه البشر يكون السلاح أساسياً في كل اختراع. المعادلة لا تتغير، قوة للهجوم وللدفاع أيضاً. الأمن ليس مجرد هاجس، بل حلقة رهيبة بين الحياة والموت. منذ اختراع السلاح الحديث الذي يقتل المجاميع من الأرض والجو والبحر، صار السلاح الفتاك قوة تفرض نفسها في العلاقات بين الدول، وبات الصانع الأساسي للقرار في العلاقات بين كيانات البشر من خلال ساسة الدول. الحرب العالمية الأولى، وبعدها الثانية، غيرتا معايير القوة ومجال حركتها وصناعة واقع إنساني شامل في كل قارات العالم.
أدولف هتلر الذي تمكن في سنوات قليلة من أن يحول ألمانيا إلى مصنع أسطوري للسلاح الرهيب، وعبأ ملايين الشباب الألمان في آلة حربية مندفعة في كل اتجاه، جعل السلاح أداته السياسة التي تكتب على الأرض بالدم حدود حلمه في المجال الحيوي لألمانيا. عندما كان تشمبرلين السياسي البريطاني المحافظ يعتقد أن العقل السياسي قادر على صناعة منطق التهدئة والسلام، كان هتلر يعتقد أن السلاح هو الذي يكتب المواثيق ويرسم خرائط الدول. خسر هتلر سلاحه وجيوشه وبلاده، وأخيراً حياته، فيما كسب الزعيم البريطاني ونستون تشرشل الحروب بقوة السياسة، التي جعلته يحشد حلفاء ويعبئ قوة عالمية لمواجهة سياسة السلاح الهتلرية. وقّع هتلر اتفاقية عدم اعتداء مع الاتحاد السوفياتي، وحينما كان ستالين يراقب احتلال ألمانيا لفرنسا ويترقب اليوم الذي سيعبر الجيش الألماني البحر نحو الجزيرة البريطانية، يفاجأ بالاكتساح الألماني للإمبراطورية السوفياتية. اليابانيون كانت لهم السيادة في آسيا، ويسيطرون عسكرياً على قدراتها ولم تتخلق قوة منافسة لها على أي مستوى، غلبت سياسة السلاح واندفعت في مواجهات طالت الولايات المتحدة الأميركية، ما اضطرها إلى دخول معركة شاملة ضد اليابان.
الحرب العالمية الثانية بمآسيها وما ترتب عليها من ضحايا وخسائر إنسانية ومادية غير مسبوقة، غيّرت منهج السلاح والسياسة في العلاقات الدولية. كانت أزمة الصواريخ التي نصبها الاتحاد السوفياتي في كوبا على بعد كيلومترات من الولايات المتحدة الأميركية، قد وضعت الدنيا على حافة الفناء بمواجهة نووية بين القوتين النوويتين العظميين وطرحت معادلة السلاح والسياسة. اضطر الزعيم السوفياتي المندفع نيكيتا خروتشوف لأن يراجع الحقائق على الأرض، وقبل بترتيبات حفظ ماء وجه القوة السوفياتية بإعادة تموضع قوات حلف الأطلسي على الحدود السوفياتية في تركيا مقابل سحب صواريخ الاتحاد السوفياتي من كوبا. الرئيس المصري الراحل أنور السادات استعمل السلاح أداة سياسية في حربه ضد إسرائيل. كسر معطية التفوق العسكري الإسرائيلي غير القابل للتعديل بعبور قناة السويس وتكبيد إسرائيل أكبر خسائر في صفوف جيشها من بشر وآليات لم تلحق بها في كل مواجهاتها مع الجيوش العربية منذ قيامها. قدّم بذلك درساً مضافاً في استعمال السلاح أداة سياسية، وحقق هدفه باسترداد أرضه المحتلة.
لقد تعلمت القوى الدولية من كل تلك الوقائع، لكننا اليوم أمام دول لم تدرك بعد تلك الحقائق. لنا مثلاً في عراق صدام حسين وفي كوريا الشمالية تحت حكم عائلة سونغ وإيران في ظل حكم الملالي.
بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، دون غالب أو مغلوب، برز تيار سياسي في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، ومن بينها إيطاليا، يرى أن العراق يمكن أن يكون سداً يصد باب الأطماع الإيرانية في المنطقة ويساهم في تأمين تدفق النفط إلى العالم، وإذا بصدام يدفع قواته لاحتلال الكويت. لقد جعل من السلاح أداة سياسية تفرض واقعاً يريده في المنطقة، ما جعل القوى الدولية الفاعلة تصمم على كسر معادلته، بل تدميرها وتدميره. كوريا الشمالية أنفقت كل ثروتها في صناعات عسكرية متنوعة، أهمها السلاح النووي، وبذلك نقلت حالة العداء بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية واليابان إلى حافة الصدام، لكن التأثير الصيني القوي على كيم إيل أون وجّه استعماله سلاحه إلى قوة سياسية فاعلة على الأرض وإلى أداة للمساومة والمناورة بمدى محسوب وجنّب بلاده كارثة الصدام الخطير مع الولايات المتحدة الأميركية، وإلى انتهاج سياسة تقارب مع جارته الجنوبية. استخدم سلاحه في مناورة سياسية محسوبة جمعته مع عدوه الأقوى رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وتجاوز حالة حافة الهاوية التي جعلت العالم يعبر حلقة التهديد بالضغط على الأزرار النووية.
الحالة التي لا تزال مفتوحة أمام حقائق سبق للعالم أن شهدها عبر سنين، لكنها لم تقفل أبوابها بعد، هي الحالة الإيرانية. لقد بنت دولة الملالي استراتيجيتها على التمدد في مجال حيوي، رسمت خطوط طوله وعرضه عقيدتها الطائفية الدينية. جعلت من السلاح أداة سياسية. أنفقت جهدها العلمي والمالي في صناعة الصواريخ والقوة البحرية، وتطمح إلى الوصول للسلاح النووي، وجعلت شعارات الموت لأميركا وإسرائيل دليلها التعبوي الشعبي العابر للحدود.
السلاح الذي أهدرت إيران جهدها العلمي والبشري فيه، وقدراتها المالية، تحول إلى سلاح تطلقه على نفسها من دون توقف، غرقت البلاد في حالة من العوز بسبب العقوبات الأميركية، الإنفاق العبثي على أتباع لها في أكثر من دولة، وعزلة تزداد اتساعاً دون توقف، العامل الأكثر خطورة على النظام هو تصاعد قوة الشارع الإيراني المضادة لكيان النظام، ولأول مرة تطال «رأسه المقدس» المرشد الأعلى، وتفتح مستقبل تكوينه دستورياً وتنظيمياً.
عندما تكون الدول معرضة فعلاً لما يهدد أمنها الوطني من الخارج، يكون السلاح قوة لا مندوحة منها للدفاع عن بيضة الوطن، لكن عندما يتحول إلى أداة سياسية لتحقيق طموحات آيديولوجية وفرض مجال حيوي خارج الحدود يصير أداة عملية إتلافية ذاتية تصعق صانعها.