بقلم - مي عزام
(1)
ما يجرى حاليًا فى الولايات المتحدة الأمريكية يجذب انتباه العالم أجمع. تصرفات ترامب التى أدت إلى التخطيط لعزله فى الأيام القليلة المتبقية له فى الحكم تثير الدهشة وتطرح تساؤلات حول صورة أقوى دولة فى العالم ونظامها الديمقراطى ودور الدولة العميقة وتأثير منصات التواصل الاجتماعى فى توجيه الرأى العام.
عمالقة التواصل من أمثال فيس بوك وتويتر وجوجل تثير المخاوف لدى الساسة والمشرعين حول فرض قواعدها الخاصة على مستخدميها، وتأثيرها على أعداد مهولة وصلت إلى المليارات حول العالم، وتجاوزها حدود اختصاصها، كما حدث بعد حظر تويتر حساب ترامب بصفة دائمة، وإيقاف منصات أخرى حسابات ترامب لساعات محددة بعد حادث اقتحام الكونجرس.
(2)
تصرفات ترامب الأخيرة بالتأكيد لا ترتقى إلى منصب رئيس أقوى دولة فى العالم، لكن حظر حساباته على منصات التواصل هو عقاب وحكم يتجاوز دور هذه المنصات ويجب ألا يترك لها، وهو ما أعربت عنه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، وصرحت بأن لديها تحفظات بشأن الطريقة التى حظر بها تويتر حساب الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته، دونالد ترامب، وأضافت أن المشرعين، وليس الشركات الخاصة، هم من يتعين عليهم اتخاذ القرارات بشأن وضع أى قيود ضرورية على حرية التعبير. ويعكس هذا التصريح قلق برلين ومعظم دول أوروبا بشأن سلطة منصات التواصل الاجتماعى الأمريكية العملاقة، مثل تويتر وفيسبوك وجوجل (يوتيوب)، فى تشكيل الخطاب العام والتدخل والتأثير على القرارات السياسية السيادية فى بلدانهم، وخاصة بعد تحقيقات أثبتت تأثير شركة «كامبريدج أناليتيكا» (والتى حصلت على بيانات الملايين من مستخدمى فيسبوك بهدف دراسة سلوكهم وتوجهاتهم والتأثير عليها)، على نتائج استفتاء بريكست وانتخابات الرئاسة الأمريكية فى 2016. وهو ما يفسر المخاوف الأمريكية من تطبيق «تيك توك» الصينى واسع الانتشار، وفرضها عقوبات على شركة هواوى الصينية، وتحذير حلفائها الأوروبيين من التعامل معها فى تطوير شبكة الجيل الخامس خوفًا من الاختراق.
(3)
الإنترنت نشأ فى أمريكا كمشروع ممول من وزارة الدفاع الأمريكية للتواصل بين وحدات الجيش الأمريكى فى ستينيات القرن الماضى، ثم تحول بعد انتهاء الحرب الباردة إلى أداة محورية للهيمنة الأمريكية، وإحدى قوى أمريكا الناعمة وأكثرها تأثيرًا، وهو ما دفع منافسى أمريكا لاتخاذ خطوات احترازية تهدف لخلق نطاقات إقليمية ومحلية للإنترنت. الصين تعد النموذج الأكثر نجاحًا فى السيطرة على حركة المعلومات بين الفضاء السيبرانى العالمى والمحلى من خلال «جدار الحماية العظيم» الخاص بها، فلقد قامت الصين بتحجيم الوصول إلى شبكة الإنترنت العالمية منذ البداية، بعد إصدار الحزب الشيوعى الحاكم قانونًا عام 1996 ينص على أن الحكومة هى التى تصدر تراخيص جميع مقدمى خدمات الإنترنت، وتوجيه حركة الإنترنت بشكل عام للمرور عبر شركات الاتصالات المملوكة للدولة. ومنذ ذلك الحين تم تطوير أنظمة التحكم، وضخ مبالغ هائلة لضمان فاعلية هذه الأنظمة. روسيا وإيران تحاولان السير على النهج الصينى، ببناء شبكات إنترنت محلية يمكن فصلها عن شبكة الإنترنت العالمية إذا تطلب الأمر فى حالة وقوع اختراق للشبكات المحلية، مع بقائها داخليًا سليمة وعاملة. ومن أجل ذلك أصدرت روسيا قانون الإنترنت السيادى، واقترحت بناء شبكة إنترنت تشمل دول «البريكس» لتكون أداة للفكاك من الهيمنة الأمريكية الرقمية.
(4)
الصراعات المستقبلية ستختلف كثيرًا عما عرفناه، وكذلك أدوات السيطرة. جائحة كورونا لفتت انتباهنا لذلك، ويجب أن نفكر فى الأمر ونحن نخطط لمستقبلنا وتصورنا عن قواعد النظام العالمى الجديد. المنافسة بين عمالقة التكنولوجيا الأمريكيين ومنافسيهم الصينيين تخلق مجالات جديدة للصراع والسيطرة، الحروب لم تعد فقط حروبًا عسكرية، لكن التلاعب بالعقول عن طريق منصات التواصل أصبح جزءًا من الخطط الحربية التى تديرها شركات ومؤسسات تقدم خدماتها لمن يدفع، بعيدًا عن أعين المؤسسات العسكرية التقليدية. كل بلاد العالم، ولا أستثنى أحدًا، معرضة للاختراق من الداخل وما ينتج عن ذلك من قلاقل وعدم استقرار.
منصات التواصل شركات تهدف للربح. الخدمات المجانية التى تقدمها لمستخدميها تأخذ ثمنها مضاعفًا مقابل بياناتك الشخصية عن طريق مراقبتك والتنبؤ بسلوكك وبيع ذلك لمن يطلب ويدفع.
العالم القادم لا نعرفه وعلينا على الأقل أن نسعى للتعرف عليه حتى نستطيع النجاة والبقاء.