بقلم - سوسن الأبطح
القول إن عنف المحتجين ضد المصارف له هوية طائفية أو وجهة حزبية، يشبه الادعاء بأن المنتفضين من يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) مموَّلون من سفارات غربية، وأنهم لا يتحركون من تلقاء أنفسهم. وكلّ يحاول أن يحرف معنى الغضب الشعبي عن وجهته عندما لا يلائمه لونه، أو الهدف الذي يسعى إليه.
ومع أن أحزاب السلطة، على تنوع مشاربها، لم تقصّر منذ بدء الاحتجاجات في الدسّ هنا، والتأثير هناك، وتجييش جماعاتها، والدفع بهم إلى الساحات، لمكاسب تتوق إليها، فإن هذا لا يحجب كمّ الغضب العارم عند الناس، الذي بدأ رقصاً وغناء وأناشيد وكثيراً من الطرف والنكات، لكنه تحوّل إلى موجة ثانية أكثر قسوة، بعد أن أدار المسؤولون الآذان الصمّاء لمطالب تبدأ من ربطة الخبز، ولن تنتهي بتشكيل حكومة.
تحاول الأحزاب التي تمسك بالسلطة أن تتحايل على الجموع الهائجة، لكن الأمور في بلد صغير، مكشوفة أكثر مما يمكن أن يحتمل. ثمة مجموعات محتجة كانت تعتصم أمام المصارف منذ تسعين يوماً دون توقف. بُحّت حناجر المنتفضين أمام «مصرف لبنان» الرئيسي وفروعه، لكن البنوك بقيت تقتّر على سحوبات ذوي الدخل المحدود، وتخفض في المبالغ التي تتيحها للناس من ودائعهم، وكأنما كل الهتافات تذهب سدى، والمطالب لا أحد يريد أن يفهمها.
كمّ الوعي عند الإنسان العادي، صار يسمح له بأن يعرف جيداً أن لعبة إفقاره تدور بين أهل السياسة والمال، حتى صار يصعب الفصل بينهما. لهذا حين يوجه المنتفضون غضبهم إلى المصارف، فذلك لأنهم يعرفون أن ما اختُلس منهم تم تذويبه هنا أو تسفيره عبر هذه المؤسسات التي صُنّفت دائماً على أنها درّة التاج اللبناني. ومحزن أن نرى ما بُني من ثقة، عبر عقود طويلة من الجهد، يتحول إلى أداة بيد من أساءوا الأمانة، وانقضّوا على إرث وطني هو موضع اعتزاز كل اللبنانيين وتقديرهم.
اجتازت المصارف اللبنانية كل الحروب، لم تنحنِ أبداً. عملت حين انقسم الجيش اللبناني، وبقيت صامدة. تكيفت يوم أصبح للبنان حكومتان، وكأنه دولتان، وبقيت شامخة تفتح أبوابها للمودعين لتأمين حاجاتهم، في أحلك اللحظات وأكثرها دموية وتراجيدية. في تلك الفترات السوداء، لم تكن بطاقات الائتمان قد اختُرعت، ولا الكومبيوترات قد وجدت، لتسهيل المعاملات، عن بُعد. مع ذلك عرفت تلك المؤسسات العريقة أن تنجو بنفسها من الفوضى، والسلاح يشهر في كل اتجاه. انهارت الليرة بفعل جنون الوحشية والقتل، وبقيت البنوك، التي بفضلها استعادت العملة الوطنية ألقها. تشظى كل شيء، تفتتت العائلات، هاجرت الأدمغة، قطعت أوصال المناطق، تبدلت الخرائط، ولم ينقذ لبنان إلا أمران: صلابة نظامه التعليمي مع حرص العائلات على توفير أفضل مدارس لأبنائهم، ونظام مصرفي يحفظ حقوق العباد وبه تنتظم معاملاتهم.
وهو ما انهال عليه أصحاب السلطة طوال السنوات الماضية دون رحمة، كما قرروا أن وسائل الإعلام لهم، وصار لكل منهم جامعة ومدرسة، وربما لأصدقائهم أيضاً، كذلك فعلوا بالمصارف، وسخروها لنهمهم. وحين يخلط أصحاب القرار بين جيوبهم الخاصة، وحسابات الدولة، وصناديق البنوك، التي فيها جنى أعمار المواطنين، حينها تكون الجريمة قد وقعت.
مشهد هجوم المحتجين على المصارف وتحطيم الواجهات والانتقام من الصرافات الآلية، يبقى رمزياً، على بشاعته، ويعبر عن غضب عميق من طريقة إدارة الدولة، التي بقدر ما أفادت المصارف، وكبرت من أرباحها، غررت بها أيضاً. الجميع واقعون فريسة نهج استمر أكثر مما ينبغي. أن تصبح نصف الودائع ملكاً لواحد في المائة فقط من الناس، فهذا يدين كلّ مَن تداول السلطة، ويستحق أكثر من ثورة.
تضخم عدد المصارف حتى صارت 62 مصرفاً فيما يقتصر عددها في سويسراً على 13. هذا غريب. والأظرف، أن النظام المصرفي اللبناني، بما له من سمعة رنانة اجتذب ليس فقط أموال السكان الذين توقفوا عن الاستثمار بفضل الفوائد القياسية على إيداعاتهم، وإنما أيضاً أموال المغتربين التي تجاوزت الثلاثين مليار دولار، وكبار التجار السوريين ومتوسطيهم بمبلغ مماثل من المليارات، حتى صارت الأزمة الحالية التي وقعت فيها البنوك لها تشعباتها الممتدة بعيداً في الجغرافيا، وضاربة عميقاً في حياة الناس.
من السهل فهم غيظ المحتجين وحنقهم على مصارفهم، التي تعيد إليهم أموالهم بالقطارة، ومن الصعب مسامحة سلطة ترى انهيار الهيكل، وتتصرف ببطء السلحفاة، ولا تدرك أن ثمة شعباً يطالبها بإعادة نظر في كل المرحلة السابقة؛ فأن تصرف الدولة 300 مليون دولار على الطرقات سنوياً، في بلد لم يعد فيه من طرقات، و40 مليار دولار على الكهرباء، أي نصف الدين العام، ولا يصل التيار إلى البيوت، وأن يتخرج سنوياً 16 ألف جامعي لا يجد أكثر من ثلاثة آلاف منهم عملاً، هذا قبل اندلاع الاحتجاجات، بينما أصبح الإيقاف عن العمل هو الأكثر بداهة، فهذا له اسم واحد، هو: «الفشل».
ما حدث في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية إلى اليوم نسخة جدّ مشوهة، عما شهدته دول عديدة؛ حيث بدت الليبرالية وسيلة المتنفذين للانقضاض على المال العام، واستسهال مراكمة الصلاحيات، والتشجيع على الربح السريع، والاستهلاك المتوحش.
كم كان بعيد النظر أمين معلوف حين كتب عن «اختلال العالم»، وعن تحولات صعبة تجتاح المعمورة تعطي انطباعاً بأن لا بد للذكاء البشري أن يجترح المعجزة ليخرج منها، لكن النتائج تأتي دائماً مفاجئة، حتى لتتساءل عما إذا لم نكن قد انحدرنا إلى عتبة القصور الخلقي، وبدأ البشر برحلة تراجع القهقرى المرير.