بقلم - جميل مطر
حانت لحظة الرحيل. هبوا واقفين ومصرين على أن أستمر جالسا فى مقعدى. اقتربوا فلمحت دمعة محبوسة فى عين حزينة. إنه ولا شك حزن الفراق بعد أسبوعين من متعة خالصة أشبعت بعضا ضئيلا من شوق عنيد صنعته سنين البعاد. لا بد من إنجاز مراسم التوديع فى أقل وقت ممكن فالطائرة لن تعذر من يتأخر عن اللحاق بموعدها. لن تنتظر.
• • •
تأملته وهو يعبر الحديقة على ضوء خافت. حسبت أنه يمشى متثاقلا بعد أن سبقته زوجته ويدها ممسكة بيد ابنهما الشاب. حسبت أيضا أننى فى حاجة لأعود من خلف زجاج نافذتى لأجلس على مقعدى فقدماى انهكتهما نفس هى نفسها منهكة وجسد نالت من كفاءته آلام عظام الظهر والأسنان اجتمعت فى وقت واحد قبل وخلال فسحة الزيارة. جلست أتأمل فى خاطر فاجأنى عند النافذة. خيل لى أننى أرى من وراء الزجاج طيف أمه واقفة على شرفة شقتنا بالمهندسين وكأنها تحاول أن تقول كلاما لن يسمعه ابنها ولا زوجته أو ابنهما المرافق لهما ولا ابنهما الذى سبقهم فسافر قبل موعد سفرهم بيومين.. لن يسمعه غيرى. وفى الواقع لم أكن فى حاجة لأن أسمعه. فقد حفظته حرفا حرفا منذ يوم سمعتها تنطق به. كان اليوم يوم سفره للخارج بعد تخرجه فى بعثة قد تستغرق سنوات. قالت، وهى تبكى ونادرا ما رأيتها تبكى أمام أحد، أنت الآن تحرمنى من ابنى. للأسف تركتك تشجعه. كنت أظن أنك سوف تضعف فى نهاية الأمر وتقنعه بأن لا يرحل.
• • •
كانت فى الثامنة عشرة عندما حملت به وركبت به ومعى من نيودلهى طائرة إلى كلكتا وهناك قضينا ليلة مرعبة. فى اليوم التالى كنا على متن طائرة أكبر حجما نقلتنا إلى بانجكوك وهناك تكالب علينا الناموس فلم ننم طوال الليلتين اللتين قضيناهما فى العاصمة السيامية. وفى فجر الليلة الثانية أخذنا طائرة إلى هونج كونج، ومن هونج كونج ركبنا القطار إلى كانتون فى أقصى جنوب الصين. قضينا فى هذه المدينة ليلة لم تتوقف فيها صفارات البواخر والصنادل العملاقة عن إطلاق مختلف أنواع الضجيج والصخب. قرب الشروق كنا فى طائرة لعلها الأقل حجما وسعة وسرعة وطاقما بين كل طائرات الركاب التى أقلتنى فى حياتى. فى النهاية وصلنا العاصمة بكين فى أقصى شمال الصين بعد أسبوع من السفر بالطائرات وآخرها أسوأها وأبطأها وأكثرها صعودا وهبوطا. وصلنا الفندق وثلاثتنا، أنا وزوجتى وجنين فى بطنها نعانى من الآلام أعنفها وأكثرها تنوعا.
• • •
كنت فى الثالثة وعشرين من عمرى وكانت فى التاسعة عشرة عندما أنجبنا أول أطفالنا. كنا محظوظين بإقامتنا فى الصين خلال هذه الفترة الحرجة من حياة أى زوجين. فمن ناحية اختارت حرم السفير أن تنصب نفسها والدة لزوجتى ترعاها مع رضيعها ومن ناحية أخرى اختارت وزارة الخارجية الصينية لخدمتنا أكفأ طباخ وأفضل مربية أطفال وأحسن مساعدة تنظيف للعمل فى شقتنا التى عجلوا باختيارها لسكنانا متجاوزين عديد الإجراءات البيروقراطية وأسبقيات الحجز. كنا كبعثة دبلوماسية وللحق نحتل مكانة سياسية متميزة والفضل يعود بعضه ولا شك إلى العلاقة الوطيدة التى نسج خيوطها النظام الحاكم فى مصر مع الصين منذ التقى قادة البلدين فى باندونج. بعض آخر من الفضل يعود إلى اللواء حسن رجب سفير مصر الذى استطاع بأنشطته المتنوعة ومنها تعلم اللغة الصينية وسمعته العلمية التى سبقته كمخترع لبوصلة بحرية تحمل اسمه (بوصلة لاجابو) أن يحصل لنفسه وللسفارة على احترام وتقدير المسئولين والأكاديميين الصينيين.
• • •
استمر وقوفى خلف زجاج النافذة رغم اختفائهم عن نظرى، واستمر التأمل. فكرت كيف استطاع هذا الابن أن يكون دائما فى مقدم اهتماماتنا وانشغالاتنا. حكيت كيف جعلنا نتألم، والأم بخاصة، وما يزال جنينا فى بطنها خلال رحلتنا إلى الصين، وكيف خلع قلوبنا ونحن نرميه فى منتصف الليل من طائرتنا المحترقة لارتطامها بالحقل الموازى لمهبطها فى مطار بومباى ولم يزل رضيعا. وكيف تسبب لأمه وهو طفل فى الخامسة فى خلاف مع طاقم طائرة مصر للطيران المتوجهة من روما إلى القاهرة عندما اكتشفت المضيفة أنه فكك بأصابعه الرفيعة جميع المسامير المطلة عليه من ظهر المقعد الأمامى ومساند المقعد المربوط به. وكيف تسبب فى جلبة وحال تعبئة فى مطار باريس عندما غاب وهو ابن التاسعة عن أمه وشقيقته الأصغر وكادت الطائرة ترحل لتعثر عليه شرطة المطار فى دورة مياه فى الطابق السفلى يلعب برغاوى الصابون.
• • •
هى نفسها الأم التى كانت تنهض من فراشها بعد منتصف الليل لتتأكد من أنه، وهو طالب بالثانوى ثم بالجامعة، نائم فى فراشه أو جالس يدرس على مكتبه ولم يستجب لنداءات الأصحاب والصاحبات الصادرة من الشارع تدعوه لنزهة أو سهرة من نوع أو آخر. وهى الأم التى بلغها من شرطة الإسكندرية أن ابنها الطالب بطب القاهرة اصطدم بطفل أفلت من يد أبيه وجرى فجأة من الرصيف إلى وسط الكورنيش ولم يتمكن ابنها الشاب قائد السيارة من تفاديه. ليلتها ولليالى تالية قضيتها مع ابنى المحبوس فى قسم شرطة المنتزة على ذمة التحقيق، بينما توجهت الأم إلى المستشفى حيث يرقد الطفل وقضت هناك نفس عدد الليالى التى قضيتها أنا مع ابننا فى قسم الشرطة. لم نعد إلى منزلنا إلا بعد أن أعلن المستشفى شفاء الطفل وعاد مع أهله إلى بيته ومعهم زوجتى مدعوة لترتاح من عناء الإقامة الطويلة بالمستشفى ودون نوم ثم اصطحبوها للمعمورة حيث كنا فى انتظارها.
• • •
هى نفس الأم التى، بعد مرور أكثر من ست سنوات على حادث الكورنيش، وقفت فى شرفة شقتنا بالمهندسين تودع ابنها وقد صار رجلا صاحب قرار السفر للعمل فى مستشفى بالخليج لتكوين مبلغ من المال يسهم به فى تكاليف الدراسة فى أدنبره. قدرت، وأفلحت فى التقدير، أن ابنها لن يعود إلا زائرا. ظلت إلى آخر أيامها مقتنعة بمسئوليتى المباشرة عن اتخاذه قرار الرحيل. كنت متهما بأننى أقف وراء اقتناعه بالطب مهنة له واقتناع أخته بالهندسة مهنة لها. وراء هذا الاتهام بعض الصحة. صحيح أننى لم أحرض لصالح الطب والهندسة ولكنى حرضت أولادى الثلاثة ضد مهنة السياسة أو حتى الاهتمام بها.
• • •
راح ظنى على امتداد حياتى إلى حد الاعتقاد أننى نجحت فى إبعادهم عن الاهتمام بالسياسة حتى وقع خلال الشهر الأخير اجتماع العائلة. كنا هناك الجد والأبناء وعديد الأحفاد، منهم من يعمل أو يدرس فى أوروبا ومنهم من يدرس أو يعمل فى أمريكا ومنهم من يتعلم اللغات بمدارس مصرية ومنهم من ولدت قبل أيام. لا أذكر أنهم خلال هذه الإجازة الطويلة ناقشوا أمرا غير حرب الإبادة التى شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى وتواطؤ دول الغرب معها وسمو أخلاق الأفارقة عند التعامل مع قضية الإبادة وارتباك العرب أو انحدار أداء أغلبهم خلال الأزمة برمتها.
• • •
هيمنت السياسة على أيام الاجتماع العائلى وأثبتت أولويتها على سائر الاهتمامات. وفى نهايتها سافر الابن وعائلته على وعد منه أن يدرس فكرة أن يتقاعد فى مصر، فنكون قد لبينا رغبة أمه ولو وهى غائبة.